للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

غيره بوجه ومعلوم أن ما يطبع عليه البشر لا يفي بذلك وما يستحقه الرب تعالى لذاته وأنه أهل أن يعبد أعظم مما يستحقه لإحسانه فهو المستحق لنهاية العبادة والخضوع والذل لذاته ولإحسانه وإنعامه وفي بعض الآثار "لو لم أخلق جنة ولا نارا لكنت أهلا أن أعبد" ولهذا يقول أعبد خلقه له يوم القيامة وهم الملائكة سبحانك ما عبدناك حق عبادتك فمن كرمه وجوده ورحمته أن رضي من عباده بدون اليسير مما ينبغي أن يعبد به ويستحقه لذاته وإحسانه فلا نسبة للواقع منهم إلى ما يستحقه بوجه من الوجوه فلا يسعهم إلا عفوه وتجاوزه وهو سبحانه أعلم بعباده منهم بأنفسهم فلو عذبهم لعذبهم بما يعلمه منهم وإن لم يحيطوا به علما ولو عذبهم قبل أن يرسل رسله إليهم على أعمالهم لم يكن ظالما لهم كما أنه سبحانه لم يظلمهم بمقته لهم قبل إرسال رسوله على كفرهم وشركهم وقبائحهم فإنه سبحانه نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ولكن أوجب على نفسه إذ كتب عليها الرحمة أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه برسالته وسر المسألة أنه لما كان شكر المنعم على قدره وعلى قدر نعمه ولا يقوم بذلك أحد كان حقه سبحانه على كل أحد وله المطالبة به وإن لم يغفر له ويرحمه وإلا عذبه فحاجتهم إلى مغفرته ورحمته وعفوه كحاجتهم إلى حفظه وكلاءته ورزقه فإن لم يحفظهم هلكوا وإن لم يرزقهم هلكوا وإن لم يغفر لهم ويرحمهم هلكوا وخسروا ولهذا قال أبوهم آدم وأمهم حواء: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وهذا شأن ولده من بعده وقد قال موسى كليمه سبحانه: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} وقال: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} وقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وقال: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} وقال خليله إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} وقال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} إلى قوله: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} وقال أول رسله إلى أهل الأرض: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وقال لأكرم خلقه عليه وأحبهم إليه: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَق} إلى قوله: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} وقال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} وقد تقدم حديث ابن عباس في دعائه صلى الله عليه وسلم: "رب أعني ولا تعن عليّ" وفيه "رب تقبل توبتي واغسل حوبتي" الحديث وقد أخبر سبحانه عن أعبد البشر داود أنه استغفر ربه راكعا وأناب وقال تعالى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِك} وقال عن نبيه سليمان: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} وقال عن نبيه يونس أنه ناداه في الظلمات: {لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} وقال صديق الأمة وخيرها وأبرها وأتقاها لله بعد رسوله: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال: "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كبيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني أنك أنت الغفور الرحيم" فاستفتح الخبر عن نفسه بأداة التوكيد التي تقتضي تقرير ما بعدها ثم ثنى بالإخبار عن ظلمه لنفسه ثم وصف ذلك الظلم بكونه ظلما كبيرا ثم طلب من ربه أن يغفر له مغفرة من عنده أي لا يبلغها

<<  <   >  >>