للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لا في محل من غير سبب اقتضى حدوثها يكون مريدا بها للمخلوقات فارتكبتم ثلاث محالات حدوث حادث بلا إرادة من الفاعل وحدوث حادث بلا سبب حادث وقيام الصفة بنفسها لا في محل وادعيتم مع ذلك أنكم أرباب العقول والنظر فأي معقول أفسد من هذا وأي نظر أعمى منه وإن شئت قلت كون العبد مريدا أمر ممكن والممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا لمرجح تام والمرجح التام إما من العبد وإما من مخلوق آخر وأما من الله سبحانه والقسمان الأولان باطلان فتعين الثالث كما تقدم فهذه الحجة لا يمكن دفعها ولا يمكن دفع العلم الضروري باستناد أفعالنا الاختيارية إلى إرادتنا وقدرتنا وإنا إذا أردنا الحركة يمنة لم تقع يسرة وبالعكس فهذه الحجة لا يمكن دفعها والجمع بين الحجتين هو الحق فإن الله سبحانه خالق إرادة العبد وقدرته وجاعلهما سببا لإحداثه الفعل فالعبد محدث لفعله بإرادته واختياره وقدرته حقيقة وخالق السبب خالق للمسبب ولو لم يشأ سبحانه وجود فعله لما خلق له السبب الموجد له فقال الفريقان للسني كيف يكون الرب تعالى محدثا لها والعبد أيضا، قال السني: إحداث الله سبحانه لها بمعنى أنه خلقها منفصلة عنه قائمة بمحلها وهو العبد فجعل العبد فاعلا لها بما أحدث فيه من القدرة والمشيئة وإحداث العبد لها بمعنى أنها قامت به وحدثت بإرادته وقدرته وكل من الإحداثين مستلزم للآخر ولكن جهة الإضافة مختلفة فما أحدثه الرب سبحانه من ذلك فهو مباين له قائم بالمخلوق مفعول له لا فعل وما أحدثه العبد فهو فعل له قائم به يعود إليه حكمه ويشتق له منه اسمه وقد أضاف الله سبحانه كثيرا من الحوادث إليه وأضافها إلى بعض مخلوقاته كقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} ، وقال: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} وقال: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} وقال: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} وقال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وقال وأنزل الله عليك الكتاب وقال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وقال: {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} وقال: {فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} وهذا كثير فأضاف هذه الأفعال إلى نفسه إذ هي واقعة بخلقه ومشيئته وقضائه وأضافها إلى أسبابها إذ هو الذي جعلها أسبابا لحصولها بين الإضافتين ولا تناقض بين السببين وإذا كان كذلك تبين أن إضافة الفعل الاختياري إلى الحيوان بطريق التسبب وقيامه به ووقوعه بإرادته لا ينافي إضافته إلى الرب سبحانه خلقا ومشيئة وقدرا ونظيره قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} وقال لنوح: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} فالرب سبحانه هو الذي حملهم فيها بإذنه وأمره ومشيئته ونوح حملهم بفعله ومباشرته.

فصل: وأما قول الجاحظ أن العبد يحدث أفعاله الاختيارية من غير إرادة منه بل بمجرد القدرة والداعي فإن أراد نفي إرادة العبد وجحد هذه الصفة عنه فمكابرة لا تنكر من طوائف هم أكثر الناس مكابرة وجحدا للمعلوم بالضرورة فلا أرخص من ذلك عندهم وأن أراد أن الإرادة أمر عدمي وهو كونه غير مغلوب ولا ملجأ فيقال هذا العدم من لوازم الإرادة لا أنه نفسها وكون الإرادة أمرا عدميا مكابرة أخرى وهي بمنزلة قول القائل القدرة أمر عدمي لأنها بمعنى عدم العجز والكلام عدمي لأنه عدم الخرس والسمع والبصر عدمي لأنهما عدم الصمم والعمى وأما قوله أن الفعل يقع بمجرد القدرة وعلم الفاعل بما فيه من الملائمة فمكابرة ثالثة فإن العبد يجد من نفسه قدرة

<<  <   >  >>