على الفعل وعلما بمصلحته ولا يفعله لعدم إرادته له لما في فعله من فوات محبوب له أو حصول مكروه إليه فلا يوجب القدرة والعلم وقوع الفعل ما لم تقارنهما الإرادة.
فصل: وأما قول الآخر أن كون النفس مريدة أمر ذاتي لها فلا تعلل إلى آخره كلام في غاية البطلان فهب أنا لا نطلب علة كونها مريدة فكونها كذلك هو مخلوق فيها أم غير مخلوق وهي التي جعلت نفسها كذلك أم فاطرها وخالقها هو الذي جعلها كذلك وإذا كان سبحانه هو الذي أنشأها بجميع صفاتها وطبيعتها وهيآتها فكونها مريدة هو وصف لها وخالقها خالق لأوصافها فهو خالق لصفة المريدية فيها فإذا كانت تلك الصفة سببا للفعل وخالق السبب خالق للمسبب والمسبب واقع بقدرته ومشيئته وتكوينه وهذا مما لا ينكره إلا مكابر معاند.
فصل: وأما قول الطائفة الأخرى أن الله سبحانه خلق فيه إرادة صالحة للضدين فاختار أحدهما على الآخر ولا ريب أن الأمر كذلك ولكن وقوع أحد الضدين باختياره وإيثاره له وداعية إليه لا يخرجه عن كونه مخلوقا للرب سبحانه مقدورا له مقدرا على العبد واقعا بقضاء الرب وقدره وأنه لو شاء لصرف داعية العبد وإرادته عنه إلى ضده فهذه هي البقية التي بقيت على هذه الفرقة من إنكار القدر فلو ضموها إلى قولهم لأصابوا كل الإصابة ولكانوا أسعد بالحق في هذه المسألة من سائر الطوائف وتحقيق ذلك أن الله سبحانه بعدله وحكمته أعطى العبد قدرة وإرادة يتمكن بها من جلب ما ينفعه ودفع ما يضره فأعانه بأسباب ظاهرة وباطنة ومن جملة تلك الأسباب القدرة والإرادة وعرفه طريق الخير والشر ونهج له الطريق وأعانه بإرسال رسله وإنزال كتبه وقرن به ملائكته وأزال عنه كل علة يحتج بها عليه ثم فطرهم سبحانه على إرادة ما ينفعهم وكراهة مما يؤذيهم ويضرهم كما فطر على ذلك الحيوان البهيم ثم كان كثير مما ينفعهم لا علم لهم به على التفصيل والذي يعلمونه من المنافع أمر مشترك بينهم وبين الحيوانات وثم أمور عظيمة هي أنفع شيء لهم لا صلاح لهم ولا فلاح ولا سعادة إلا بمعرفتها وطلبها وفعلها ولا سبيل لهم إلى ذلك إلا بوحي منه وتعريف خاص فأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه فعرفهم ما هو الأنفع لهم ما فيه سعادتهم وفلاحهم فصادفتهم الرسل مشتغلين بأضدادها قد ألفوها وساكنوها وجرت عليها عوائدهم حين ألفتها الطباع فأخبرتهم الرسل أنها أضر شيء عليهم وأنها من أعظم أسباب ألمهم وفوات إربهم وسرورهم فنهضت الإرادة طالبة للسعادة والفلاح إذ الدعوة إلى ذلك محركة للقلوب والأسماع والأبصار إلى الاستجابة فقام داعي الطبع والألف والعادة في وجه ذلك الداعي معارضا له يعد النفس ويمنيها ويرغبها ويزين لها ما ألفته واعتادته لكونه ملائما له وهو نقد عاجل وراحة مؤثرة ولذة مطلوبة ولهو ولعب وزينة وتفاخر وتكاثر وداعي الفلاح يدعو إلى أمر آجل في دار غير هذه الدار لا ينال إلا بمفارقة ملاذها وطيباتها ومسراتها وتجرع مرارتها والتعرض لآفاتها وإيثار الغير لمحبوباتها ومشتهياتها يقول خذ ما تراه ودع ما سمعت به فقامت الإرادة بين الداعيين تصغي إلى هذا مرة وإلى هذا مرة فههنا معركة الحرب ومحل المحنة فقتيل وأسير وفائز بالظفر والغنيمة فإذا شاء الله سبحانه وتعالى رحمة عبد جذب قوى إرادته وعزيمته إلى ما ينفعه ويحييه الحياة الطيبة فأوحى إلى ملائكته أن ثبتوا عبدي واصرفوا همته وإرادته إلى مرضاتي وطاعتي كما قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}