للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عطاءه ويحسن وضعه عنده ومنعه من يستحق المنع ولا يليق به غيره ولهذا قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} الذين يعرفون قدر النعمة ويشكرون المنعم عليهم فيما من عليهم من بين من لا يعرفها ولا يشكر ربه عليها وكانت فتنة بعضهم ببعض لحصول هذا التمييز الذي ترتب عليه شكر هؤلاء وكفر هؤلاء.

فصل: وأما قوله: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ} فهي على بابها وهي لام الحكمة والتعليل أخبر الله سبحانه أنه جعل ما ألقاه الشيطان في أمنية الرسول محنة واختبارا لعباده فافتتن به فريقان وهم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وعلم المؤمنين أن القرآن والرسول حق وأن إلقاء الشيطان باطل فآمنوا بذلك وأخبتت له قلوبهم فهذه غاية مطلوبة مقصودة بهذا القضاء والقدر والله سبحانه جعل القلوب على ثلاثة أقسام مريضة وقاسية ومخبتة وذلك لأنها إما أن تكون يابسة جامدة لا تلين للحق اعترافا وإذعانا أو لا تكون كذلك فالأول حال القلوب القاسية الحجرية التي لا تقبل ما يبث فيها ولا ينطبع فيها الحق ولا ترتسم فيها العلوم النافعة ولا تلين لإعطاء الأعمال الصالحة وأما النوع الثاني فلا يخلوا إما أن يكون الحق ثابتا فيه لا يزول عنه لقوته مع لينه أو يكون ثابتا مع ضعف وانحلال والثاني هو القلب المريض والأول هو الصحيح المخبت وهو جمع الصلابة والصفاء واللين فيبصر الحق بصفائه ويشتد فيه بصلابته ويرحم الخلق بلينه كما في أثر مروي: "القلوب آنية الله في أرضه فأحبها إلى الله أصلبها وأرقها وأصفاها" كما قال تعالى في أصحاب هذه القلوب: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} فهذا وصف منه للمؤمنين الذين عرفوا الإيمان بصفاء قلوبهم واشتدوا على الكفار بصلابتها وتراحموا فيما بينهم بلينها وذلك أن القلب عضو من أعضاء البدن وهو أشرف أعضائه وملكها المطاع وكل عضو كاليد مثلا إما أن تكون جامدة ويابسة لا تلتوي ولا تبطش أو تبطش بضعف فذلك مثل القلب القاسي أو تكون مريضة ضعيفة عاجزة ولضعفها ومرضها فذلك مثل الذي فيه مرض أو تكون باطشة بقوة ولين فذلك مثل القلب العليم الرحيم فبالعلم خرج عن المرض الذي ينشأ من الشهوة والشبهة وبالرحمة خرج عن القسوة ولهذا وصف سبحانه من عدا أصحاب القلوب المريضة والقاسية بالعلم والإيمان والإخبات فتأمل ظهور حكمته سبحانه في أصحاب هذه القلوب وهم كل الأمة فأخبر أن الذين أوتوا العلم علموا أنه الحق من ربهم كما أخبر أنهم في المتشابه يقولون آمنا به كل من عند ربنا وكلا الوصفين موضع شبهة فكان حظهم منه الإيمان وحظ أرباب القلوب المنحرفة عن الصحة الافتتان ولهذا جعل سبحانه أحكام آياته في مقابلة ما يلقي الشيطان بإزاء الآيات المحكمات في مقابلة المتشابهات فالأحكام ههنا بمنزلة إنزال المحكمات هناك ونسخ ما يلقي الشيطان ههنا في مقابلة رد المتشابه إلى المحكم هناك والنسخ ههنا رفع ما ألقاه الشيطان لا رفع ما شرعه الرب سبحانه وللنسخ معنى آخر هو النسخ من أفهام المخاطبين ما فهموه مما لم يرده ولا دل اللفظ عليه وإن أوهمه كما أطلق الصحابة النسخ على قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} قالوا نسختها قوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} الآية فهذا نسخ من الفهم لا نسخ للحكم الثابت فإن المحاسبة لا تستلزم العقاب في الآخرة ولا في الدنيا أيضا ولهذا عمهم بالمحاسبة ثم أخبر بعدها أنه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ففهم

<<  <   >  >>