المؤاخذة التي هي المعاقبة من الآية تحميل لها فوق وسعها فرفع هذا المعنى من فهمه بقوله:{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} إلى آخرها فهذا رفع لفهم غير المراد من إلقاء الملك وذاك رفع لما ألقاه غير الملك في أسماعهم أو في التمني وللنسخ معنى ثالث عند الصحابة والتابعين وهو ترك الظاهر إما بتخصيص عام أو بتقييد مطلق وهذا كثير في كلامهم جدا وله معنى رابع وهو الذي يعرفه المتأخرون وعليه اصطلحوا وهو رفع الحكم بجملته بعد ثبوته بدليل رافع له فهذه أربعة معان للنسخ والإحكام له ثلاثة معان، أحدها: الإحكام الذي في مقابلة المتشابه كقوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} والثاني: الإحكام في مقابلة نسخ ما يلقي الشيطان كقوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} وهذا الإحكام يعم جميع آياته وهو إثباتها وتقريرها وبيانها ومنه قوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} ، الثالث: إحكام في مقابلة الآيات المنسوخة كما يقوله السلف كثيرا هذه الآية محكمة غير منسوخة وذلك لأن الإحكام تارة يكون في التنزيل فيكون في مقابلة ما يلقيه الشيطان في أمنيته ما يلقيه المبلغ أو في سمع المبلغ فالحكم هنا هو المنزل من عند الله أحكمه الله أي فصله من اشتباهه بغير المنزل وفصل منه ما ليس منه بإبطاله وتارة يكون في إبقاء المنزل واستمراره فلا ينسخ بعد ثبوته وتارة يكون في معنى المنزل وتأويله وهو تمييز المعنى المقصود من غيره حتى لا يشتبه به والمقصود أن قوله: {ليجعل ما يلقى لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} هي لام التعليل على بابها وهذا الاختبار والامتحان مظهر لمختلف القلوب الثلاثة فالقاسية والمريضة ظهر خبؤها من الشك والكفر والمخبتة ظهر خبؤها من الإيمان والهدى وزيادة محبته وزيادة بغض الكفر والشرك والنفرة عنه وهذا من أعظم حكمة هذا الإلقاء.
فصل: وأما اللام في قوله: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} فلام التعليل على بابها فإنها مذكورة في بيان حكمته في جمع أوليائه وأعدائه على غير ميعاد ونصرة أوليائه مع قلتهم ورقتهم وضعف عددهم وعدتهم على أصحاب الشوكة والعدد والحد والحديد الذي لا يتوهم بشر أنهم ينصرون عليهم فكانت تلك آية من أعظم آيات الرب سبحانه صدق بها رسوله وكتابه ليهلك بعدها من اختار لنفسه الكفر والعناد عن بينة فلا يكون له على الله حجة ويحيي من حي بالإيمان بالله ورسوله عن بينة فلا يبقى عنده شك ولا ريب وهذا من أعظم الحكم ونظير هذا قوله: {إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} .
فصل: وأما اللام في قوله: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} فهي على بابها للتعليل فإنها إن كانت تعليلا لفعل العدو وهو إيحاء بعضهم إلى بعض فظاهر وعلى هذا فيكون عطفا على قوله: {غُرُوراً} فإنه مفعول لأجله أي ليغروهم بهذا الوحي ولتصغى إليه أفئدة من يلقى إليه فيرضاه ويعمل بموجبه فيكون سبحانه قد أخبر بمقصودهم من الإيحاء المذكور وهو أربعة أمور غرور من يوحون إليه وإصغاء أفئدتهم إليهم ومحبتهم لذلك وانفعالهم عنده بالاقتراف وإن كان ذلك تعليلا لجعله سبحانه لكل نبي عدوا فيكون هذا الحكم من جملة الغايات والحكم المطلوبة بهذا الجعل وهي غاية وحكمة مقصودة لغيرها لأنها مفضية إلى أمور هي محبوبة مطلوبة للرب سبحانه وفواتها يستلزم فوات ما هو أحب إليه من حصولها وعلى التقديرين فاللام لام التعليل والحكمة.