للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والإعراض فالأول من باب تعليل عدم الحكم بعدم ما يقتضيه والثاني من باب تعليله بوجود مانعه وهذا إنما يصح ممن يأمر وينهى ويفعل للحكم والمصالح وأما من يجرد فعله عن ذلك فإنه لا يضاف عدم الحكم إلا إلى مجرد مسببه فقط ومن هذا تنزيه نفسه عن كثير مما يقدر عليه فلا يفعله لمنافاته لحكمته وحمده كقوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} وقوله: {مَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} فنزه نفسه عن هذه الأفعال لأنه لا يليق بكماله وينافي حكمته وحمده وعند النفاة أنها ليست مما ينزه الرب عنه لأنها مقدورة له وهو إنما ينزه عما لا يقدر عليه ولكن علمنا أنها لا تقع لعدم مسببه لها لا لقبحها في نفسها.

فصل: النوع الثاني والعشرون أن تعطيل الحكمة والغاية المطلوبة بالفعل إما أن يكون لعدم علم الفاعل بها أو تفاصلها وهذا محال في حق من هو بكل شيء عليم وإما لعجزه عن تحصيلها وهذا ممتنع في حق من هو على كل شيء قدير وإما لعدم إرادته ومشيئته الإحسان إلى غيره وإيصال النفع إليه وهذا مستحيل في حق أرحم الراحمين ومن إحسانه من لوازم ذاته فلا يكون إلا محسنا منعما منانا وإما لمانع يمنع من إرادتها وقصدها وهذا مستحيل في حق من لا يمنعه مانع عن فعل ما يريد وإما لاستلزامها نقصا ومنافاتها كمالا وهذا باطل بل هو قلب للحقائق وعكس للفطر ومناقضة لقضايا العقول فإن من يفعل لحكمة وغاية مطلوبة يحمد عليها أكمل ممن يفعل لا لشيء البتة كما أن من يخلق أكمل ممن لا يخلق ومن يعلم أكمل ممن لا يعلم ومن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم ومن يقدر ويريد أكمل ممن لا يتصف بذلك وهذا مركوز في الفطر مستقر في العقول فنفي حكمته بمنزلة نفي هذه الأوصاف عنه وذلك يستلزم وصفه بأضدادها وهي أنقص النقائص ولهذا صرح كثير من النفاة كالجويني والرازي بأنه لم يقم على نفي النقائض عن الله دليل عقلي إلا مستند النفي السمع والإجماع وحينئذ فيقال لهؤلاء إن لم يكن في إثبات الحكمة نقص لم يجز نفيها وإن كانت نقصا فأين في السمع أو في الإجماع نفي هذا النقص وجمهور الأمة يثبت حكمته سبحانه والغايات المحمودة في أفعاله فليس مع النفاة سمع ولا عقل ولا إجماع بل السمع والعقل والإجماع والفطرة تشهد ببطلان قولهم والله الموفق للصواب وجماع ذلك أن كمال الرب تعالى وجلاله وحكمته وعدله ورحمته وقدرته وإحسانه وحمده ومجده وحقائق أسمائه الحسنى تمنع كون أفعاله صادرة منه لا لحكمة ولا لغاية مطلوبة وجميع أسمائه الحسنى تنفي ذلك وتشهد ببطلانه وإنما نبهنا على بعض طرق القرآن وإلا فالأدلة التي تضمنها إثبات ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا وبالله التوفيق.

فصل: وكيف يتوهم ذو الفطرة صحيحة خلاف ذلك وهذا الوجود شاهد بحكمته وعنايته بخلقه أتم عناية وما في مخلوقاته من الحكم والمصالح والمنافع والغايات المطلوبة والعواقب الحميدة أعظم من أن يحيط به وصف أو يحصره عقل ويكفي الإنسان فكره وخلقه وأعضائه ومنافعها وقواه وصفاته وهيأته فإنه لو استنفد عمره لم يحط علما بجميع ما تضمنه خلقه من الحكم والمنافع على التفصيل والعالم كله علويه وسفليه بهذه المثابة ولكن لشدة ظهور الحكمة ووضوحها وجد الجاحد

<<  <   >  >>