للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

السبيل إلى إنكارها وهذا شأن النفوس الجاهلة الظالمة كما أنكرت وجود الصانع تعالى مع فرط ظهور آياته ودلائل ربوبيته بحيث استوعبت كل موجود ومع هذا فسمحت بالمكابرة في إنكاره وهكذا أدلة علوه سبحانه فوق مخلوقاته مع شدة ظهورها وكرتها سمحت نفوس الجهمية بإنكارها وهكذا سواها كصدق أنبيائه ورسله ولا سيما خاتمهم صلوات الله وسلامه عليه فإن أدلة صدقه في الوضوح للعقول كالشمس في دلالتها على النهار ومع هذا فلم يأنف الجاحدون والمكابرون من الإنكار وهكذا أدلة ثبوت صفات الكمال لمعطي الكمال هي من أظهر الأشياء وأوضحها وقد أنكرها من أنكرها ولا يستنكر هذا فإنك تجد الرجل منغمسا في النعم وقد أحاطت به من كل جانب وهو يشكي حاله ويسخط مما هو فيه وربما أنكر النعمة فضلال النفوس وغيها لا حد له تنتهي إليه ولا سيما النفوس الجاهلة الظالمة ومن أعجب العجب أن تسمح نفس بإنكار الحكم والعلل الغائية والمصالح التي تضمنها هذه الشريعة الكاملة التي هي من أدل الدلائل على صدق من جاء بها وأنه رسول الله حقا ولو لم يأت بمعجزة سواها لكانت كافية شافية فإن ما تضمنته من الحكم والمصالح والغايات الحميدة والعواقب السديدة شاهدة بأن الذي شرعها وأنزلها أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وشهود ذلك في نضاعيفها ومضمونها كشهود الحكم والمصالح والمنافع في المخلوقات العلوية والسفلية وما بينهما من الحيوان والنبات والعناصر والآثار التي بها انتظام مصالح المعاش فكيف يرضى أحد لنفسه إنكار ذلك وجحده وإن تجمل واستحى من العقلاء قال ذلك أمر اتفاقي غير مقصود بالأمر والخلق وسبحان الله كيف يستجيز أحد أن يظن برب العالمين وأحكم الحاكمين أنه يعذب كثيرا من خلقه أشد العذاب الأبدي لغير غاية ولا حكمة ولا سبب وإنما هو محض مشيئة مجردة عن الحكمة والسبب فلا سبب هناك ولا حكمة ولا غاية وهل هذا إلا من أسوء الظن بالرب تعالى وكيف يستجيز أن يظن بربه أنه أمر ونهى وأباح وحرم وأحب وكره وشرع الشرائع وأمر بالحدود لا لحكمة ولا لمصلحة يقصدها بل ما ثم إلا مشيئة محضة رجحت مثلا على مثل بغير مرجح وأي رحمة تكون في هذه الشريعة وكيف يكون المبعوث بها رحمة مهداة للعالمين لو كان الأمر كما يقول النفاة وهل يكون الأمر والنهي إلا عقوبة وكلفة وعبثا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ولو ذهبنا نذكر ما يطلع عليه أمثالنا من حكمة الله في خلقه وأمره لزاد ذلك على عشرة آلاف موضع مع قصور أذهاننا ونقص عقولنا ومعارفنا وتلاشيها وتلاشي علوم الخلائق جميعهم في علم الله كتلاشي ضوء السراج في عين الشمس وهذا تقريب وإلا فالأمر فوق ذلك وهل إبطاله الحكم والمناسبات والأوصاف التي شرعت الأحكام لأجلها إلا إبطال للشرع جملة وهل يمكن فقيها على وجه الأرض أن يتكلم في الفقه مع اعتقاده بطلان الحكمة والمناسبة والتعليل وقصد الشارع بالأحكام مصالح العباد وجناية هذا القول على الشرائع من أعظم الجنايات فإن العقلاء لا يمكنهم إنكار الأسباب والحكم والمصالح والعلل الغائية فإذا رأوا أن هذا لا يمكن القول به مع موافقة الشرائع ولا يمكنهم رفعه عن نفوسهم خلوا الشرائع وراء ظهورهم وأساؤا بها الظن وقالوا لا يمكننا الجمع بينها وبين عقولنا ولا سبيل لنا إلى الخروج عن عقولنا ورأوا أن القول بالفاعل المختار لا يمكن إلا مع نفي الأسباب والحكم والقوى والطبائع ولا سبيل إلى نفيها فنفوا الفاعل وأولئك لم يمكنهم القول بنفي الفاعل المختار ورأوا أنه لا يمكنهم إثباته مع إثبات الأسباب والحكم والقوى

<<  <   >  >>