للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولو كانوا على غير ذلك لم يحصل مقصود الامتحان والابتلاء وتنوع العبودية وظهور آثار الأسماء والصفات فلو كان أهل الإيمان والخير هم الأكثرين الغالبين لفاتت مصلحة الجهاد وتوابعه التي هي من أجل أنواع العبودية وفات الكمال المترتب على ذلك فلا أحسن مما اقتضاه حكمة أحكم الحاكمين في المخلوق من هذه المواد ثم أنه سبحانه يخلص ما في المخلوق من تينك المادتين من الخبث والشر ويمحصه ويستخرج طيبه إلى دار الطيبين ويلقي خبثه حيث تلقى الخبائث والأوساخ وهذا غاية الحكمة كما هو الواقع في جواهر المعادن المنتفع بها من الذهب والفضة والحديد والصفر فخلاصة هذه المواد وطيبها أقل من وسخها وخبثها والناس زرع الأرض والخير الصافي من الزرع بعد زوانه وقصله وعصفه وتبنه أقل من بقية الأجزاء وتلك الأجزاء كالصور له والوقاية كالحطب والشوك للثمر والتراب والحجارة للمعادن النفيسة.

فصل: الوجه السابع والثلاثون قوله وأي حكمة في تسليط أعدائه على أوليائه يسومونهم سوء العذاب فكم لله في ذلك من حكم باهرة منها حصول محبوبة من عبودية الصبر والجهاد وتحمل الأذى فيه والرضى عنه في السراء والضراء والثبات على عبوديته وطاعته مع قوة المعارض وغلبته وشوكته وتمحيص أوليائه من أحكام البشرية ودواعي الطباع ببذل نفوسهم له وأذى أعدائه لهم وتميز الصادق من الكاذب ومن يريده ويعبده على جميع الحالات ممن يعبده على حرف وليحصل له مرتبة الشهادة التي هي من أعلى المراتب ولا شيء أبر عند الحبيب من بذل محبة نفسه في مرضاته ومجاهدة عدوه فكم لله في هذا التسليط من نعمة ورحمة وحكمة وإذا شئت أن تعلم ذلك فتأمل الآيات من أواخر آل عمران من قوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} إلى قوله: {نَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} فكان هذا التمييز من بعض حكم ذلك التسليط ولولا ذلك التسليط لم تظهر فضيلة الصبر والعفو والحكم وكظم الغيظ ولا حلاوة النصر والظفر والقهر فإن الأشياء يظهر حسنها بأضدادها ولولا ذلك التسليط لم تستوجب الأعداء المحق والإهانة والكبت فاستخرج ذلك التسليط من القوة إلى الفعل ما عند أوليائه فاستحقوا كرامتهم عليه وما عند أعدائه فاستحقوا عقوبتهم عليه فكان هذا التسليط مما أظهر حكمته وعزته ورحمته ونعمته في الفريقين وهو العزيز الحكيم، الوجه الثامن والثلاثون قوله وأي حكمة في تكليف الثقلين وتعريضهم بذلك العقوبة وأنواع المشاق، فاعلم أنه لولا التكليف لكان خلق الإنسان عبثا وسدى والله يتعالى عن ذلك وقد نزه نفسه عنه كما نزه نفسه عن العيوب والنقائص قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} وقال: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} قال الشافي لا يؤمر ولا ينهى ومعلوم أن ترك الإنسان كالبهائم مهملا معطلا مضاد للحكمة فإنه خلق لغاية كماله وكماله أن يكون عارفا بربه محبا له قائما بعبوديته قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وقال: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} وقال: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فهذه المعرفة وهذه العبودية هما غاية الخلق والأمر وهما أعظم كمال الإنسان والله تعالى من عنايته به ورحمته له عرضه لهذا الكمال وهيأ له أسبابه الظاهرة والباطنة ومكنه منها

<<  <   >  >>