لا يستطيع إلا الانقياد له ثم أتبع ذلك بإقراره له بنفاذ حكمه فيه وجريانه عليه شاء أم أبى وإذا حكم فيه بحكم لم يستطع غيره برده أبدا وهذا اعتراف لربه بكمال القدرة عليه واعتراف من نفسه بغاية العجز والضعف فكأنه قال أنا عبد ضعيف مسكين يحكم فيه قوى قاهر غالب وإذا حكم فيه بحكم مضى حكمه فيه ولا بد ثم أتبع ذلك باعترافه بأن كل حكم وكل قضية ينفذها فيه هذا الحاكم فهي عدل محض منه لا جور فيها ولا ظلم بوجه من الوجوه فقال ماض في حكمك عدل في قضاؤك وهذا يعم جميع أقضيته سبحانه في عبده قضائه السابق فيه قبل إيجاده وقضائه فيه المقارن لحياته وقضائه فيه بعد مماته وقضائه فيه يوم معاده ويتناول قضاءه فيه بالذنب وقضائه فيه بالجزاء عليه ومن لم يثلج صدره لهذا ويكون له كالعلم الضروري لم يعرف ربه وكماله ونفسه وعينه ولا عدل في حكمه بل هو جهول ظلوم فلا علم ولا إنصاف وفي قوله ماض في حكمك عدل في قضاؤك رد على طائفتي القدرية والجبرية وإن اعترفوا بذلك بألسنتهم فأصولهم تناقضه فإن القدرية تنكر قدرته سبحانه على خلق ما به يهتدي العبد غير ما خلقه فيه وجبله عليه فليس عندهم لله حكم نافذ في عبده غير الحكم الشرعي بالأمر والنهي ومعلوم أنه لا يصح حمل الحديث على هذا الحكم فإن العبد يطيعه تارة ويعصيه تارة بخلاف الحكم الكوني القدري فإنه ماض في العبد ولا بد قائمة بكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ثم قوله بعد ذلك عدل في قضاؤك دليل على أن الله سبحانه عادل في كل ما يفعله بعبده من قضائه كله خيره وشره حلوه ومره فعله وجزائه فدل الحديث على الإيمان بالقدر والإيمان بأن الله عادل فيما قضاه فالأول التوحيد والثاني العدل وعند القدرية النفاة لو كان حكمه فيه ماضيا لكان ظالما له بإضلاله وعقوبته أما القدرية الجبرية فعندهم الظلم لا حقيقة له بل هو الممتنع لذاته الذي لا يدخل تحت القدرة فلا يقدر الرب تعالى عندهم على ما يسمى ظلما حتى يقال ترك الظلم وفعل العدل فعلى قولهم لا فائدة في قوله عدل في قضاؤك بل هو بمنزلة أن يقال نافذ في قضاؤك ولا بد وهو معنى قوله ماض في حكمك فيكون تكريرا لا فائدة فيه وعلى قولهم فلا يكون ممدوحا بترك الظلم إذ لا يمدح بترك المستحيل لذاته ولا فائدة في قوله أني حرمت الظلم على نفسي أو يظن معناه أني حرمت على نفسي ما لا يدخل تحت قدرتي وهو المستحيلات ولا فائدة في قوله:{فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} فإن كل أحد لا يخاف من المستحيل لذاته أن يقع ولا فائدة في قوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} ولا في قوله: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} فنفوذ حكمه في عباده بملكه وعدله فيهم بحمده وهو سبحانه له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ونظير هذا قوله سبحانه حكاية عن نبيه هود أنه قال: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فقوله: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} مثل قوله ناصيتي بيدك ماض في حكمك وقوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} مثل قوله عدل في قضاؤك أي لا يتصرف في تلك النواصي إلا بالعدل والحكمة والمصلحة والرحمة لا يظلم أصحابها ولا يعاقبهم بما لم يعلموه ولا يهضمهم حسنات ما عملوه فهو سبحانه على صراط مستقيم في قوله وفعله يقول الحق ويفعل الخير والرشد وقد أخبر سبحانه أنه على الصراط المستقيم في سورة هود وفي سورة النحل فأخبر في هود أنه على صراط مستقيم في تصرفه في النواصي التي هي في قبضته وتحت يده وأخبر في النحل أنه يأمر بالعدل ويفعله وقد زعمت الجبرية أن العدل هو المقدور وزعمت القدرية