والأسماع إليه مُصْغِية. وقد تختلف في ذلك عباراتُه، ويتكرَّر بيانُه، ليكون أوْقَعَ للسامعين. وأولو الحفظ والإتقان من فقهاء الصحابة يُرْعون كلامه سمعاً ويستوفونه حِفْظاً، ويُؤَدُّونه على اختلاف جهاته، فيجتمع لذلك في القضية الواحدة عدةُ ألفاظ تحتها معنى واحد.
وقد يتكلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- في بعض النوازل وبحضرته أخلاطٌ من الناس، قبائلُهم شتى، ولغاتُهم مختلفة، ومراتبُهم في الحفظ والإتقان غير متساوية، وليس كلهم يتيسر له ضبط اللفظ وحَصْره، وإنما يستدرك المرادَ بالفحوى، ويتعلَّق منه بالمعنى، ثم يؤدِّيه بلغتِه التي نشأ عليها، ويعبر عنه بلسان قبيلته، فيجتمع في الحديث الواحد إذا انشعَبتْ طرقُه عدة ألفاظ مختلفة، مُوجِبُها شيءٌ واحدٌ، ولكثرة ما يَرِدُ من هذا ومن نظائره. يقول أبو عبيدة:"أعيانا أن نعرف -أو نحصي- غريبَ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يفهمون جُلَّ حديث نبيهم -صلى الله عليه وسلم- وما خَفِيَ عليهم منه سألوه عنه، وأزالوا الإشكال عنه. وبعد انقضاءِ عصرهم، مضى المسلمون فاتحين يُبَلِّغون رسالة الله في الأرض، ومن الطبيعي أن يختلطوا ويختلط أولادهم بالأمم الأخرى، فتمتزج الألسنة، ويغيب عصرُ الفصاحة، وتَضْعُفَ سبُلُ المحافظة عليها، مع استمرار الاتصال بالأمم الأخرى، ودواعي امتزاج الألسنة والشعوب.