وقد أخذ الكلام عن الجعد بن درهم حين لقيه بالكوفة بعد هرب الجعد إليها من دمشق، وكان جهم فصيحا وصاحب خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله تعالى. وأول ظهور مذهب جهم كان بترمذ، حيث أظهره فيها للملأ وأشاعه وحاور فيه ثم أقام ببلخ، فكان يصلي مع مقاتل بن سليمان البلخي المفسر المشهور، وكان مقاتل يقص في الجامع بمرو، فقدم جهم فجلس إلى مقاتل، فوقعت الخصومة بينهما، فوضع كل منهما على الآخر كتابا ينقض عليه، ثم بعد ذلك نفي الجهم إلى ترمذ، وهناك اتصل بالحارث بن سريج الذي خرج على أمراء خراسان، وقد زعم الجهم أن الحارث قد خرج داعيا للكتاب والسنة والشورى، فاتخذه الحارث كاتبا له، وكان يقص في بيت الحارث في عسكره، وكان يخطب بدعوته وسيرته فيجذب الناس إليه، وكان يحمل السلاح ويقاتل معه، وكان مقتل جهم في سنة ثمان وعشرين ومائة على يد نصر بن سيار. وقد توسع مذهب الجهم بعد مقتله شأنه في ذلك شأن المذاهب كلها التي استفحل أمرها وكثرت رجالها، وتفرعت مسالكها، وتنوعت مصنفاتها، وقد يظن أنها أمست أثرا بعد عين، مع أن المعتزلة فرع منها، وكذلك المتكلمون المتأخرون من الأشاعرة يرجعون في كثير من مسائلهم إلى مذهب الجهمية، فمن ظن أن الجهمية لا وجود لها فهو مخطئ وإطلاق المؤلف لفظ الجهمية هنا يدخل فيه المعتزلة- أيضا-، فإن أئمة السلف كالإمام أحمد في كتابه "الرد على الجهمية"، والبخاري في "الرد على الجهمية" ومن بعدهما إنما يعنون بالجهمية هنا المعتزلة وغيرهم، ويعود السبب في ذلك إلى ما يجمع بين الفرقتين من مسائل تتفقان عليها، فإن المعتزلة قد أخذت عن الجهمية القول بنفي الرؤية والصفات، وخلق الكلام، ووافقتها عليها، وإن كان لكل فروع واختيارات غير ما للأخرى، إلا أن ما توافقوا فيه من هذه المسائل الكبيرة جعلهم كأهل المذهب الواحد، فلذلك أطلق أئمة السلف لفظ الجهمية على المعتزلة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لما وقعت محنة الجهمية- نفاة الصفات- في أوائل المائة الثالثة، على عهد المأمون وأخيه المعتصم ثم الواثق، دعوا الناس إلى التجهم، وإبطال صفات الله تعالى، وطلبوا أهل السنة للمناظرة، ولم تكن المناظرة مع المعتزلة فقط، بل كانت مع جنس الجهمية من المعتزلة والنجارية والضرارية، وأنواع المرجئة، فكل معتزلي جهمي وليس كل جهمي معتزليا، ولكن جهما أشد تعطيلا لأنه ينفي الأسماء والصفات، وبشر المريسي كان من المرجئة ولم يكن من المعتزلة، بل كان من كبار الجهمية". وقد ذكر شيخ الإسلام أن الجهمية ثلاث درجات: فشرها: "الغالية": الذين ينفون أسماء الله وصفاته، وإن سموه بشيء من أسمائه الحسنى، قالوا هو مجاز، فهو في الحقيقة عندهم ليس بحي ولا عالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا متكلم ولا يتكلم. و"الدرجة الثانية": من التجهم هو تجهم المعتزلة ونحوهم، الذين يقرون بأسماء الله في الجملة لكن ينفون صفاته، وهم- أيضا- لا يقرون بأسماء الله الحسنى كلها على الحقيقة، بل يجعلون كثيرا منها على المجاز، وهؤلاء هم الجهمية المشهورون. و"الدرجة الثالثة": هم الصفاتية المثبتون المخالفون للجهمية لكن فيهم نوعا من التجهم، كالذين يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة، لكن يردون طائفة من أسمائه وصفاته الخبرية وغير الخبرية، ويتأولونها، كما تأول الأولون صفاته كلها. ومن هؤلاء من يقر بصفاته الخبرية الواردة في القرآن دون الحديث كما عليه كثير من أهل الكلام والفقه وطائفة من أهل الحديث. ومنهم من يقر بالصفات الواردة في الأخبار- أيضا- في الجملة، لكن مع نفي وتعطيل لبعض ما ثبت بالنصوص وبالمعقول، وذلك كأبي محمد بن كلاب ومن اتبعه، وفي هذا القسم يدخل أبو الحسن الأشعري، وطوائف من أهل الفقه والكلام والحديث والتصوف، وهؤلاء إلى أهل السنة المحضة أقرب منهم إلى الجهمية والرافضة والخوارج والقدرية، لكن انتسب إليهم طائفة هم إلى الجهمية أقرب منهم إلى أهل السنة المحضة، فإن هؤلاء ينازعون المعتزلة نزاعا عظيما فيما يثبتونه من الصفات أعظم من منازعتهم لسائر أهل الإثبات فيما ينفونه. وأما المتأخرون فإنهم والوا المعتزلة وقاربوهم أكثر، وقدموهم على أهل السنة والإثبات، وخالفوا أوائلهم. ومنهم من يتقارب نفيه وإثباته، وأكثر الناس يقولون: إن هؤلاء يتناقضون فيما يجمعونه من النفي والإثبات. اهـ. انظر: "الرد على الزنادقة والجهمية" للإمام أحمد: ص ٦٥، و"الرسالة التسعينية": ص ٤٠، ٤٢، ط. دار الفكر، و"تاريخ الجهمية والمعتزلة": ص ٥٩، ٦٠.