للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

مُحْرِزٍ١، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ٢ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ غَيْرَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ هُوَ كَائِنٌ، ثم خلق السموات".

قَالَ: قِيلَ لِي: أَدْرِكْ نَاقَتَكَ، قَالَ: فَقُمْتُ فَإِذَا السَّرَابُ يُنْقَطِعٌ دُونَهَا، فَلَيْتَهَا ذَهَبَتْ، قَالَ: يَقُولُ لِمَا فَاتَهُ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ٣.


١ هو صفوان بن محرز (بمضمومة وسكون مهملة وكسر راء فزاي، "المغني": ص ٢٢٣) بن زياد المازني، وقيل الباهلي، قال الأصمعي: كان نازلا في بني مازن وليس منهم.
روى عن عمران بن حصين وغيره، وعنه أبو صخرة جامع بن شداد وغيره، ثقة عابد، من الرابعة، مات سنة أربع وسبعين.
روى له البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه.
"تهذيب التهذيب": (٤/ ٤٣٥) ، "تقريب التهذيب": ص ١٥٣.
٢ هو عمران بن حصين بن عبيد بن خلف بن عبد نهم الخزاعي أبو نجيد (بنون وجيم مصغرا) ، أسلم عام خيبر سنة سبع، وشهد ما بعدها من غزوات مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان من فضلاء الصحابة، وقض بالكوفة، ومات سنة اثنتين وخمسين بالبصرة.
"الإصابة": (٣/ ٢٧) ، "تقريب التهذيب": ص ٢٦٤.
٣ هكذا أورده ابن أبي شيبة مختصرا.
والحديث أخرجه من طريق الأعمش:
البخاري في "صحيحه"، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [سورة الروم، الآية:٢٧] ، انظر: "فتح الباري": (٦/٢٨٦، حديث ٣١٩٠) عن عمر بن حفص بن غياث عن أبيه.
وأيضا في كتاب التوحيد، باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} . انظر: "فتح الباري": (١٣/ ٤٠٣، حديث ٧٤١٨) عن عبدان عن ابن حمزة.
والإمام أحمد في "مسنده": (٤/ ٤٣١، ٤٣٢) عن أبي معاوية.
والفريابي في "القدر": ص ١٨ عن يعقوب بن إبراهيم عن أبي معاوية.
كلهم عن الأعمش به، وبعضهم يزيد على بعض في الحديث.
وروى هذا الحديث عن جامع بن شداد سفيان الثوري- أيضا-.
أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، عن محمد بن كثير، وأيضا في كتاب المغازي، باب وفد بني تميم، انظر: "فتح الباري": (٩/٨٣، حديث ٤٣٦٥) عن أبي نعيم، وأيضا في باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن، انظر: "فتح الباري": (٨/٩٦، حديث ٤٣٨٦) عن عمرو بن علي بن أبي عاصم.
والترمذي في "سننه"، كتاب المناقب، باب مناقب في ثقيف وبني حنيفة: (٥/٧٣٢، حديث ٣٩٥١) عن محمد بن بشار بن عبد الرحمن بن مهدي، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
والإمام أحمد في "مسنده": (٤/٤٢٦) عن وكيع وعبد الرحمن، و (٤/ ٤٣٣) عن عبد الرزاق، و (٤/ ٤٣٦) عن وكيع.
كلهم عن سفيان الثوري به، بعضهم مختصرا وبعضهم مطولا.
وأيضا رواه عن جامع بن شداد عبد الرحمن المسعودي.
أخرجه النسائي في "الكبرى"، كتاب التفسير، انظر: "تحفة الأشراف": (٨/١٨٣) عن محمد بن عبد الأعلى عن خالد بن الحارث عن عبد الرحمن المسعودي عن جامع بن شداد به.
وأورد الحديث ابن كثير في "تفسيره": (٢/ ٤٣٧) من رواية الإمام أحمد عن أبي معاوية، وقال: "هذا حديث مخرج في صحيحي البخاري، ومسلم، بألفاظ كثيرة، فمنها قالوا: جئناك نسألك عن أول هذا الأمر، فقال: "كان الله ولم يكن شيء قبله"، وفي رواية: "غيره"، وفي رواية: "معه، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض".
وقوله: "إنه" مخرج في "صحيح مسلم" لم أقف عليه.
التعليق:
الحديث جاء بألفاظ مختلفة فمنها قوله: "كان الله ولم يكن شيء قبله"، وفي رواية: "غيره"، وفي رواية: "معه"، ومن المعلوم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما قال أحد هذه الألفاظ الثلاثة، والآخران قد رويا بالمعنى، لأن المجلس كان واحدا، وسؤالهم وجوابهم كان في ذلك المجلس، وقد اختلف في ترجيح إحدى هذه الروايات على الأخرى.
وقد ذهب شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم إلى ترجيح رواية "ولا شيء قبله"، واستدلوا على ذلك بما ثبت في "صحيح مسلم": (٤/٢٠٨٤، حديث ٢٧١٣) عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول في دعائه: "أنت الأول فليس قبلك شيء" الحديث.
كما أن أكثر أهل العلم إنما يرويه بهذا اللفظ، كالحميدي، والبغوي، وابن الأثير، وغيرهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن مراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من هذا الحديث هو إخباره عن خلق هذا العالم المشهود الذي خلقه في ستة أيام، وهذا ما يشهد له سياق الحديث من عدة وجوه هي:
أولا: أن قول أهل اليمن "جئناك لنسألك عن أول هذا الأمر" إما أن يكون الأمر المشار إليه هذا العالم، أو جنس المخلوقات.
فإن كان المراد هو الأول كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أجابهم.
وإن كان المراد هو الثاني لم يكن قد أجابهم لأنه لم يذكر إلا خلق السموات والأرض.
وهذا لا يجوز في حق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل هو منزه عنه، فمن هذا نستدل على أن قوله "جئناك لنسألك عن أول هذا الأمر" كان مرادهم خلق هذا العالم، والله أعلم.
ثانيا: أن قولهم "هذا الأمر" إشارة إلى حاضر موجود، ولو سألوه عن أول الخلق لم يشيروا إليه بهذا، لأنه أمر لم يشهدوه ولم يعلموه أيضا، والرسول لم يخبرهم عنه، فعلم أن سؤالهم كان عن أول هذا العالم المشهود.
ثالثا: أن قوله: "كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء" ليس في هذا ذكر لأول المخلوقات مطلقا، بل ولا فيه الإخبار بخلق العرش والماء، وإن كان ذلك كله مخلوقا كما أخبر عن ذلك في مواضع آخر، ولكن هنا في جوابه لأهل اليمن إنما. كان مقصوده إخباره إياهم عن بدء خلق السموات والأرض وما بينهما، لا بابتداء ما خلقه الله قبل ذلك.
رابعا: أنه يثق ذكر تلك الأشياء: التي هي العرش والماء- بما يدل على كونها ووجودها، ولم يتعرض لابتداء خلقها، وذكر السموات والأرض بما يدل على خلقها. اهـ.
وابن تيمية- رحمه الله تعالى- يقرر بكلامه هذا أن الله لم يزل فعالا لما يريد، ويرد على من يقول المعنى: كان الله ولا شيء معه أي لا مخلوق، ولا فعل، ولا مفعول، ثم صار يخلق ويفعل بعد أن لم يكن يخلق أو يفعل، وهذا هو قول الجهمية والمعتزلة.
ولما كان ابن تيمية يقرر هذه المسألة، ويرد على الجهمية والمعتزلة ظن كثير ممن لم يفهم مراده ولم يعرف مذهب السلف في هذه المسألة ظن أنه يقول بقدم العالم، لأنه يقول بحوادث لا أول لها، لأنهم يسمون أفعال الله الاختيارية، التي يفعلها بإرادته حوادث.
ولم يعلم هؤلاء أن لازم قولهم أشنع وأفظع، وهو أن الرب تعالى كان معطلا عن الفعل ثم صار فاعلا لأفعاله بعد أن لم يكن كذلك.
مع أن ما قال به شيخ الإسلام ابن تيمية هو ما قال به السلف:
كالإمام أحمد في "الرد على الجهمية": ص ٩٠، ٩٢.
والدارمي في "نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي".
والبخاري في "خلق أفعال العباد".
أما الحافظ ابن حجر فقد اختار في مسألة الترجيح بين الألفاظ الثلاثة الجمع بين الروايات، وقال إن قضية الجمع تقتضي حمل رواية: "ولم يكن شيء قبله" على رواية: "ولا شيء غيره" لا العكس، والجمع يقدم على الترجيح باتفاق.
والجواب على هذا الترجيح: ممكن لو احتمل أن يكون الحديث صدر منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مقامين، أما إذا كان في مجلس واحد، والراوي واحدا، وقد أخبر أنه لم يبق إلى نهاية المجلس، بل قام لما سمع هذا القول من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولحق براحلته، فلا بد أن اللفظ الذي سمعه أحد هذه الألفاظ الثلاثة، والآخرين قد رويا بالمعنى، فأصبح الجمع لا وجه له.
وحمل هذه الرواية على رواية: "ولا شيء غيره" تحكم بلا دليل، حمل عليه التعصب للمذهب، وإلا فالواجب حملها على المعروف من كلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الموافق لكلام الله تعالى.
وأما قول الحافظ: إن هذه المسألة من مستشنع ما ينسب إلى ابن تيمية، فقد تقدم أن هذا هو مذهب السلف، وأن ما يريد ترجيحه الحافظ هو مذهب الجهمية، والمعتزلة، والأشعرية، وأهل البدع. وقد أورد بعض الاتحادية الملاحدة زيادة على هذا الحديث وهي "وهو الآن على ما عليه كان".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذه الزيادة كذا مفترى على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اتفق أهل العلم بالحديث على أن هذا اللفظ موضوع مختلق، وليس هو في شيء من دواوين الحديث لا كبارها ولا صغارها، ولا رواه أحد من أهل العلم بإسناد، لا صحيح ولا ضعيف، ولا بإسناد مجهول، وإنما تكلم بهذه الكلمة بعض متأخري متكلمي الجهمية، فتلقاها منهم هؤلاء الاتحادية الذين وصلوا إلى آخر التجهم وهو التعطيل والإلحاد.
وقد قصد الجهمية بهذه الزيادة نفي الصفات التي وصف الله بها نفسه، من الاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، وغير ذلك، فقالوا: كان في الأزل وليس مستويا على العرش، وهو الآن على ما عليه كان، فلا يكون على العرش لما يقتضي ذلك من التحول والتغير.
انظر: "مجموع الفتاوى": (٢/ ٢٧٢) ، (١٨/ ٢١٠، ٢٤٢) ، "مدارج السالكين ": (٣/ ٣٩١) ، "فتح الباري": (٦/ ٢٨٩) ، (١٣/٤١٠) ، "شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري" للشيخ عبد الله الغنيمان، ص ٣٧٩- ٣٨٢.

<<  <   >  >>