للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

٧٩٤ - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أنا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: " كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَرَأَ رَجُلٌ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا وَقَرَأَ صَاحِبُهُ غَيْرَهَا، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَأَا» فَقَرَأَا، فَقَالَ: أَحْسَنْتُمَا وَأَصَبْتُمَا، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ سَقَطَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ وَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَدْ غَشِيَنِي ضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي فَارْفَضَّيْتُ عَرَقًا وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَبِّي، ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا أُبَيُّ إِنَّ رَبِّي أَرْسَلَ إِلَيَّ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ".

⦗٧٦٠⦘

٧٩٥ - قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَسَأَلَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِحْسَانِ فَقَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ.،

٧٩٦ - وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَارِثَةَ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، قَالَ: وَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟ قَالَ: عَرَفْتُ نَفْسِي فِي الدُّنْيَا فَأَسْهَرْتُ لِيَلِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا وَإِلَى أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ قَالَ: " أَبْصَرْتَ فَالْزَمْ،

٧٩٧ - وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ: عَبْدٌ نَوَّرَ اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ فَكَذَلِكَ يَتَفَاضَلُونَ فِي التَّصْدِيقِ.

٧٩٨ - كَمَا رَوَى عَنِ الْحَسَنِ، وَذَكَرَ، هَذِهِ الْآيَاتِ: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: ٦٣] قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا جَاءَتْهُمْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ مِنَ اللَّهِ صَدَّقُوا بِهَا فَوَصَلَ نَفْعُهَا إِلَى قُلُوبِهِمْ فَخَشَعَتْ لِذَلِكَ قُلُوبُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ، فَكُنْتُ إِذَا رَأَيْتُهُمْ ⦗٧٦١⦘ رَأَيْتُ قَوْمًا كَأَنَّمَا يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ رَأَيَ الْمُتَّقِينَ أَفَلَا تَرَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْعُلَمَاءَ مِنْ بَعْدِهِ يَدُلُّونَ عَلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ يَتَفَاوَتُ فِي شِدَّةِ الْيَقِينِ وَالْبَصَائِرِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَحْقِيقِ الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبْنَا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: فَلِمَ لَا يُسَمَّى النَّظَرُ جُزْءًا مِنَ النَّاظِرِ، وَالِاسْتِمَاعُ جُزْءًا مِنَ السَّمْعِ وَالْحَمْلُ جُزْءًا مِنَ الْقُوَى قِيلَ لَهُمْ إِنَّمَا ضَرَبْنَا لَكَ مَثَلًا لِتَصْدِيقِ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ الْأَعْمَالِ فَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ النَّظَرَ مِنَ الْبَصَرِ، وَالطَّاقَةُ مِنَ الْقُوَى، وَالِاسْتِمَاعُ مِنَ السَّمْعِ فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ مِنَ التَّصْدِيقِ وَكُلُّهَا تُضَافُ إِلَى الْإِيمَانِ فِي الِاسْمِ. فَإِنْ قَالُوا: فَلَيْسَ الِاسْتِمَاعُ فِي عَيْنِهِ غَيْرُ السَّمْعِ وَالنَّظَرُ غَيْرُ الْبَصَرِ لِأَنَّ الْبَصَرَ وَالسَّمْعَ فِعْلُ اللَّهِ، وَالِاسْتِمَاعُ وَالنَّظَرُ فِعْلُ الْعَبْدِ. قِيلَ لَهُمْ: هُوَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّ الشَّيْءَ يَكُونُ مِنَ الشَّيْءِ عَلَى جِهَتَيْنِ وَإِنْ كَانَا غَيْرَيْنِ فَأَحَدُهُمَا لَا يُوجِبُ ⦗٧٦٢⦘ الْآخَرَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وَلَا يَكُونَ الْآخَرُ، هَلِ الْكَلَامُ إِلَّا مِنَ اللِّسَانِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللِّسَانُ وَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ فَأَمَّا الْبَصَرُ الصَّحِيحُ إِذَا لَاقَتْهُ الْأَشْخَاصُ فَلَا جَائِزَ إِلَّا أَنْ يُوجِبَ نَظَرَ اسْتِبَانَةٍ، وَكَذَلِكَ الْأَسْمَاعُ إِذَا ظَهَرَتْ لَهَا الْأَصْوَاتُ فَلَا جَائِزَ إِلَّا أَنْ تُوجِبَ دَرَكًا لِلْأَصْوَاتِ كَالنَّارِ إِذَا لَاقَتِ الْمَاءَ فَلَا جَائِزَ إِلَّا أَنْ تُوجِبَ تَسْخِينًا، وَكَذَلِكَ الثَّلْجُ إِذَا لَاقَى الْأَشْيَاءَ الْقَابِلَةَ لِلْبَرْدِ فَلَا جَائِزَ إِلَّا أَنْ يُوجِبَ تَبْرِيدًا. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ نَرَى مِنَ النَّارِ الْيَسِيرَ الَّذِي لَا يُوجِبُ مِثْلَهُ التَّسْخِينُ وَلَا الْإِحْرَاقُ وَكَذَلِكَ الثَّلْجُ قِيلَ لَهُمْ إِنَّهُ وَإِنْ قَلَّ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهَا فَإِنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُبَرِّدٌ وَمُسَخِّنٌ لِأَنَّهُ إِذَا ضُمَّ إِلَى الْآخَرِ الَّذِي مِنْ جِنْسِهِ سَخَّنَ أَوْ أَحْرَقَ أَوْ بَرَّدَ فَلَيْسَ مِنْهَا جُزْءٌ أَوْجَبَ التَّسْخِينَ وَالتَّبْرِيدَ دُونَ الْجُزْءِ الْآخَرِ، وَالَّذِي انْفَرَدَ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَسْخِينٌ وَلَا تَبْرِيدٌ فَإِذَا ضُمَّ إِلَى الْأَجْزَاءِ الْمُسَخَّنَةِ وَالْمُبَرَّدَةِ أَخَذَ بِقِسْطِهِ مِنَ التَّسْخِينِ أَوِ التَّبْرِيدِ وَكُلُّهَا مُوجِبَةٌ لِلتَّسْخِينِ أَوِ التَّبْرِيدِ لَيْسَ مِنْهَا جُزْءٌ مُوجِبًا لِذَلِكَ دُونَ الْآخَرِ. فَإِنْ قَالُوا: أَلَيْسَ إِذَا انْفَرَدَ أَقَلُّ أَجْزَائِهَا عَلَى حَالٍ لَمْ يَكُنْ تَسْخِينٌ وَلَا إِحْرَاقٌ وَلَا تَبْرِيدٌ؟ ⦗٧٦٣⦘ قُلْنَا: وَإِنْ لَمْ تُوجِبْ فَإِنَّ فِيهِ التَّسْخِينُ وَالْإِحْرَاقُ وَالتَّبْرِيدُ وَكَذَلِكَ أَقَلُّ قَلِيلِ الْإِيمَانِ لَا يُوجِبُ الْخَوْفَ الْمُزْعِجَ عَلَى تَرْكِ مَا كَرِهَ اللَّهُ وَلَا الرَّجَاءَ الْمُزْعِجَ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا أَحَبَّ اللَّهُ فَإِذَا انْضَمَّتْ إِلَيْهِ أَجْزَاءٌ مِنْ جِنْسِهِ أَوْجَبَ الْخَوْفَ الْمُزْعِجَ عَنْ كُلِّ مَا كَرِهَ اللَّهُ لَا يَقْدِرُ صَاحِبُهُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَلَا يَتَمَالَكُ. فَكَذَلِكَ الرَّجَاءُ، وَالْحُبُّ، وَالْهَيْبَةُ وَالتَّعْظِيمُ وَالْإِجْلَالُ لِلَّهِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ. فَإِنْ قَالُوا: فَقَدْ وَجَدْنَا أَقَلَّ قَلِيلِ الْإِيمَانِ إِنْ زَايَلَهُ أَقَلُّ قَلِيلِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالْحُبِّ لِلَّهِ كَانَ كَافِرًا وَلَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُحِبَّ لِلَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ لَا يَهَابُهُ فَهُوَ كَافِرٌ لِأَنَّهُ عَرَفَ رَبَّهُ وَاعْتَرَفَ بِهِ أَوْجَبَتْ مَعْرِفَتُهُ حُبَّهُ وَهَيْبَتَهُ وَرَجَاءَهُ وَخَوْفَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ أُعْطِي الدُّنْيَا كُلَّهَا عَلَى أَنْ تَكْفُرَ بِهِ أَوْ تَكْذِبَ عَلَيْهِ مَا فَعَلَ وَإِنْ أَتَى بِكُلِّ الْعِصْيَانِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَوْلَا أَنَّهُ مُحِبٌّ مَا آثَرَهُ عَلَى كُلِّ مَحْبُوبٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ تَهَابُهُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ مُعْتَقِدًا لِلْكُفْرِ يَقْبَلُهُ، أَوْ قَائِلٌ عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ، وَمَنْ لَمْ يَهَبْ غَيْرُهُ مِنَ الْخَلْقِ فَقَدِ اسْتَخَفَّ بِهِ وَمَنْ لَمْ يُجِلَّهُ فَقَدْ صَغَّرَ ⦗٧٦٤⦘ قَدْرَهُ فَكَذَلِكَ الْخَالِقُ مَنْ لَمْ يَهَبْهُ وَلَمْ يُجِلَّهُ وَلَمْ يَعْرِفْهُ. وَكَذَلِكَ أَقَلُّ أَجْزَاءِ النَّارَ أَوِ الثَّلْجِ قَدْ تُوجِبُ الْحَرْقَ وَالتَّسْخِينَ لَا مَحَالَةَ وَلَوْ لَمْ يُوجِبْهُ لَكَانَتِ النَّارُ مُتَقَلِّبَةً عَنْ شَبَحِ النَّارِيَّةِ، وَكَانَ الثَّلْجُ مُتَقَلِّبًا عَنْ شَبَحِ الثَّلْجِيَّةِ. فَإِنْ قَالُوا: فَلَسْنَا نَرَى ذَلِكَ، وَلَا نَعْرِفُهُ. قِيلَ: إِنَّمَا مَنَعَكُمْ مِنْ ذَلِكَ قِلَّةُ مَعْرِفَتِكُمْ بِالْأَشْيَاءِ كَيْفَ صَنَعَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَنَحْنُ نُرِيكُمْ ذَلِكَ إِنَّمَا امْتَنَعَ الْأَبْصَارُ أَنْ تَرَى ذَلِكَ أَنَّ الْقَلِيلَ مِنَ النَّارِ إِذَا لَاقَى جُزْءًا مِنَ الْحَطَبِ أَقْوَى مِنْهُ لَمْ تُحْرِقْهُ وَغَلَبَهُ الْجُزْءُ مِنَ الْحَطَبِ فَأَطْفَأَهُ وَإِذَا لَاقَى جُزْءًا أَضْعَفَ مِنْهُ أَحْرَقَهُ أَوْ سَخَّنَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّرَارَةَ الضَّعِيفَةَ إِذَا لَاقَتِ الْحَرِيرَ أَحْرَقَتْهُ، وَإِذَا لَاقَتْ مَا فَوْقَهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ لَمْ تَعْمَلْ فِيهِ وَقَهَرَهَا بِقُوَّةِ طَبْعِهِ وَكَذَلِكَ الثَّلْجُ لَوْ أُلْقِيَتْ مِنْهُ حَبَّةٌ فِي مَاءٍ جَارٍ مَا وَجَدْتَ لَهُ تَبْرِيدًا، وَلَوْ أُلْقِيَتْ تِلْكَ الْحَبَّةُ عَلَى حَدَقَةِ الْإِنْسَانِ أَوْ عَلَى لِسَانِهِ لَأَحَسَّ تَبْرِيدَهَا فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ طَبْعَهَا فِيهَا قَائِمٌ أَبَدًا، وَكَذَلِكَ ⦗٧٦٥⦘ كُلُّ مُوجِبٌ لِشَيْءٍ لَا مَحَالَةَ فَهُوَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ عَلَى التَّجْزِئَةِ فَإِنَّهُ مُضَافٌ إِلَيْهِ لَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُضِيفُهُ إِلَيْهِ فَكَذَلِكَ التَّصْدِيقُ يُضَافُ إِلَيْهِ مَا هُوَ مُوجِبَةٌ لَا مَحَالَةَ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ اضْطِرَارًا لِأَنَّكُمْ نَوْعَانِ نَوْعٌ مِنْكُمْ وَهُمْ جُمْهُورُكُمْ وَعَامَّتُكُمْ يَقُولُونَ إِنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا يَكُونُ فِي عَيْنِهَا إِيمَانًا يَمْنَعُكُمْ مِنْ ذَلِكَ شَهَادَةُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى قُلُوبِ مَنْ سُمِّيَ بِالْكُفْرِ أَنَّهَا عَالِمَةٌ مُؤْقِنَةٌ فَزَعَمْتُمْ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَيْسَتْ فِي عَيْنِهَا إِيمَانًا حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ الْإِقْرَارُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَا تَكُونُ الْمَعْرِفَةُ إِيمَانًا حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ الْخُضُوعُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: لَا تَكُونُ الْمَعْرِفَةُ إِيمَانًا حَتَّى يَكُونَ مَعَهَا الْخُضُوعُ وَالْإِقْرَارُ. ثُمَّ زَعَمَ مَنْ قَالَ مِنْكُمْ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ عَلَى تَعَرُّفِكُمْ أَنَّ الْخُضُوعَ إِيمَانٌ مَعَ الْمَعْرِفَةِ، وَالْإِقْرَارُ كَذَلِكَ، وَالتَّصْدِيقُ كَذَلِكَ، وَلَيْسَتِ الْمَعْرِفَةُ هِيَ الْخُضُوعُ وَلَا الْإِقْرَارُ وَلَا التَّصْدِيقُ وَلَكِنْ مَعْرِفَةٌ أَوْجَبَتْ ذَلِكَ كُلَّهُ. فَهَلْ تَجِدُونَ بَيْنَ مَا قُلْتُمْ وَبَيْنَ مَا قَالَ مُخَالِفُوكُمْ فُرْقَانًا ⦗٧٦٦⦘ إِذْ سَمَّوْا إِيمَانًا مَا أَوْجَبُهُ التَّصْدِيقُ وَسَمَّيْتُمْ إِيمَانًا مَا أَوْجَبَتْهُ الْمَعْرِفَةُ بَلْ هُمْ قَدِ ادَّعَوُا الصِّدْقَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا جَعَلُوا الْأَعْمَالَ إِيمَانًا مِنَ الْمَعْرِفَةِ الْقَوِيَّةِ، وَالتَّصْدِيقُ الْقَوِيُّ يُوجِبُهُ الْعَمَلُ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ عِنْدَهُمُ التَّصْدِيقُ يَتَفَاوَتُ، وَمَا ادَّعَيْتُمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ لَا يُوجِبُ التَّصْدِيقَ وَالْخُضُوعَ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا يَتَفَاوَتُ وَقَدْ شَهِدَ اللَّهُ وَأَقْرَرْتُمْ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ فَلَوْ كَانَتْ تُوجِبُ الْخُضُوعَ وَالتَّصْدِيقَ وَالْإِقْرَارَ مَا جَامَعَتِ الْكُفْرَ أَبَدًا، لِأَنَّ الْخُضُوعَ وَالْإِقْرَارَ وَالتَّصْدِيقَ فِي قَوْلِنَا وَقَوْلِكُمْ إِيمَانٌ وَهُوَ ضِدُّ الْكُفْرِ فَلَوْ كَانَتْ تُوجِبُ ذَلِكَ مَا قَارَنَهَا الْكُفْرُ أَبَدًا فَلَمَّا وَجَدْنَا عَارِفًا كَافِرًا، وَعَارِفًا مُؤْمِنًا عِنْدَنَا وَعِنْدَكُمُ اسْتَحَالَ أَنْ تُوجِبَ الْمَعْرِفَةُ الْإِيمَانَ إِذَا كَانَتْ لَا تَتَفَاوَتُ، وَلَا جَائِزَ أَنْ تُوجِبَ خُضُوعًا، وَلَا إِقْرَارًا أَبَدًا إِنْ كَانَتْ لَا تَتَفَاوَتُ فَقَدْ زَعَمْتُمْ أَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ الْمَعْرِفَةَ فَإِذَا كَانَ مَعَهَا الْخُشُوعُ وَالتَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ كَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ إِيمَانًا فَقَدْ ضَمَمْتُمْ إِلَى الْمَعْرِفَةِ مَا لَيْسَ جُزْءًا مِنْهَا وَلَا هِيَ مُوجِبَةٌ لَهُ فَدَعْوَى مُخَالِفِيكُمْ فِي إِضَافَتِهِمْ أَصْدَقُ وَأَبَيَنُ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ عِنْدَهُمْ يَتَفَاوَتُ لَهَا أَوَّلٌ وَأَعْلَى، وَكَذَلِكَ التَّصْدِيقُ لَهُ أَوَّلٌ وَأَعْلَى فَإِذَا ⦗٧٦٧⦘ عَظُمَتِ الْمَعْرِفَةُ أَوْجَبَتِ الْعَمَلَ لَا مَحَالَةَ فَجَعَلُوا مِنَ الْإِيمَانِ وَأَضَافُوا إِلَيْهِ مَا أَوْجَبَهُ عَظِيمُ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ فَقَدْ وَافَقْتُمُوهُمْ عَلَى مِثْلِ مَا خَالَفُتُمُوهُمْ، وَيُصَدِّقُ دَعْوَاكُمْ وَلَمْ تَقُودُوا قَوْلَكُمْ. وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ عِنْدَكُمْ إِذَا انْفَرَدَتْ لَيْسَتْ بِإِيمَانٍ فَإِذَا جَامَعَهَا الْخُضُوعُ وَالْإِقْرَارُ وَالتَّصْدِيقُ صَارَتِ الْمَعْرِفَةُ إِيمَانًا فَكَانَتْ فِي عَيْنِهَا وَحْدَهَا لَا إِيمَانَ فَلَمَّا ضُمَّ إِلَيْهَا غَيْرُهَا انْقَلَبَتْ فَصَارَتْ إِيمَانًا؟ وَقَالَ مُخَالِفُوكُمُ: الْإِيمَانُ أَصْلٌ إِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ ازْدَادَ بِهِ وَلَا يَتَقَلَّبُ. وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ إِضَافَتُكُمْ إِلَى التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ الْقَوْلَ الَّذِي لَيْسَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ فِي شَيْءٍ لِأَنَّ الْقَوْلَ أَجْزَاءٌ مُؤَلَّفَةٌ فِي صَوْتٍ عَنْ حَرَكَةِ لِسَانٍ، وَالْمَعْرِفَةُ عَقْدٌ بِضَمِيرِ الْقَلْبِ لَيْسَتْ بِصَوْتٍ وَلَا حُرُوفٍ وَلَا حَرَكَةٍ فَأَضَفْتُمْ إِلَى الْمَعْرِفَةِ مَا لَيْسَ فِيهَا وَلَا يُشْبِهُهَا وَلَا هِيَ مُوجِبَةٌ لَهُ إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ التَّصْدِيقَ يُوجِبُ الْقَوْلَ وَهُوَ وَإِنْ أَوْجَبَهُ فَلَيْسَ الْقَوْلُ مِنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ فِي شَيْءٍ إِذِ الْقَوْلُ حُرُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ فِي صَوْتٍ عَنْ حَرَكَةٍ وَلَيْسَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ كَذَلِكَ فَأَضَفْتُمْ إِلَيْهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَلَا يُشْبِهُهُ ثُمَّ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إِلَّا بِهِ فَهَذَا أَعْجَبُ مَنْ ⦗٧٦٨⦘ قَوْلِ مُخَالِفِيكُمْ فَقَدْ قَايَسْنَاكُمْ عَلَى اللُّغَةِ وَالْمَعْقُولِ فَتَبَيَّنَ دَحْضُ حُجَّتِكُمْ وَبُطْلَانُ دَعْوَاكُمْ وَأَوْلَى بِالْحَقِّ اتِّبَاعِهِ مَنْ أَرَادَ اللَّهَ وَخَافَهُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَزَعَمَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُرْجِئَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ وَالْإِقْرَارُ، وَأَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ فَمَنْ دُونَهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنَ الْإِيمَانِ بِشَيْءٍ إِلَّا أَمَرَ بِهِ غَيْرَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ مِنَ الْإِيمَانِ بِشَيْءٍ إِلَّا أَمَرَ بِهِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَلْزَمُ فَرْضُهُ إِلَّا جُمْلَةً، وَلَا يَحْدُثُ مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدَ شَيْءٍ، وَلَا يَأْتِي أَحَدٌ مِنْهُ بِشَيْءٍ بَعْدَ شَيْءٍ إِلَّا كَانَ كَافِرًا. فَيُقَالُ لَهُمْ: خَبِّرُونَا عَنْ أَهْلِ زَمَانِ مُوسَى وَعِيسَى هَلْ كَانَ مِنْ إِيمَانِهِمْ أَنْ يَعْلَمُوا وَيَعْتَقِدُوا التَّصْدِيقَ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا رَسُولًا؟ فَإِنْ قَالُوا: لَمْ يَكُنْ مِنْ إِيمَانِهِمْ أَنْ يَعْلَمُوا وَيَعْتَقِدُوا أَنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا رَسُولًا، وَلَكِنْ كَانَ مِنْ إِيمَانِهِمْ أَنْ يَعْلَمُوا وَيَعْتَقِدُوا أَنَّ اللَّهَ سَيَبْعَثُ مُحَمَّدًا رَسُولًا. قِيلَ لَهُمْ: فَهَلْ مِنْ إِيمَانِنَا الْيَوْمَ أَنْ نَعْلَمَ، وَنَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا رَسُولًا؟ فَإِنْ قَالُوا: وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ أَوْجَبُوا عَلَيْنَا مِنَ ⦗٧٦٩⦘ الْإِيمَانِ مَا لَمْ يُوجِبُوهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا فَهَذَا نَقْضٌ لِمَا بَنَوْا عَلَيْهِ أَصْلَهُمْ، وَخُرُوجٌ مِنْ جُمْلَةِ قَوْلِهِمْ. وَإِنْ قَالُوا: الْعِلْمُ وَالِاعْتِقَادُ بِأَنَّ اللَّهَ سَيَبْعَثُ مُحَمَّدًا رَسُولًا لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا بِأَنَّهُ قَدْ بَعَثَهُ رَسُولًا، وَأَهْلُ الزَّمَانِ الْأَوَّلِ قَدْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا رَسُولًا إِذْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ سَيَبْعَثُهُ رَسُولًا وَهَذَا هُوَ الْخُلْفُ مِنَ الْكَلَامِ، وَالتَّنَاقُضُ مِنَ الْمَقَالِ. وَيُقَالُ لَهُمْ: خَبِّرُونَا عَنْ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ بِذِكْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زَمَانِ مُوسَى وَعِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ آمَنَ بِمُوسَى وَعِيسَى وَجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ جُمْلَةً هَلْ يَكُونُ مُؤْمِنًا؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا، قِيلَ لَهُمْ: وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ بِذِكْرِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ وَجَمِيعِ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَجَمِيعِ مَا أَحَلَّ وَحَرَّمَ، فَجَهِلَ بِشَيْءٍ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ بِهِ، وَلَمْ يَفْتَرِضْهُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا وَهُوَ مُقِرٌّ مُصَدِّقٌ بِمُوسَى وَعِيسَى، وَبِجَمِيعِ مَا جَاءَا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. فَإِنْ قَالُوا: لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مِنْهُمْ جَمِيعَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُقِرَّ بِهِ خَرَجُوا مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الصَّلَاةِ، وَلَا يَقُولُ ⦗٧٧٠⦘ هَذَا مُسْلِمٌ. وَإِنْ قَالُوا: هُوَ مُؤْمِنٌ إِذْ آمَنَ بِمُوسَى وَعِيسَى وَبِمَا جَاءَا بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ بِذِكْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ. قِيلَ لَهُمْ: فَإِنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَعَلِمَ أَنَّ مُحَمَّدًا سَيُبْعَثُ أَوْ أَدْرَكَ زَمَانَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلِمَ وَأَقَرَّ بِهِ وَصَدَّقَ بِهِ هَلْ حَدَثَ لَهُ مِنَ الْإِيمَانِ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ أَصَابَ مِنَ الْإِيمَانِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِكَ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ فَقَدْ رَجَعُوا عَنْ قَوْلِهِمْ. وَإِنْ قَالُوا: لَمْ يُصِبْ بِعِلْمِهِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِقْرَارِهِ بِهِ إِيمَانًا لَمْ يَكُنْ أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِكَ. قِيلَ لَهُمْ: فَإِنْ جَهِلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا بَعَثَهُ اللَّهُ أَوْ عَلِمَهُ فَلَمْ يُقِرَّ بِهِ، وَأَقَامَ عَلَى أَمْرِهِ الْأَوَّلِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُسْتَكْمِلُ الْإِيمَانِ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ خَرَجُوا مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ هَذَا قَوْلُهُمْ، وَإِنْ قَالُوا: إِذَا جَهِلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا بَعَثَهُ اللَّهُ أَوْ عَرَفَهُ فَلَمْ يُقِرَّ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ. قِيلَ لَهُمْ: فَهَلْ يَكُونُ كَافِرًا إِلَّا بِتَرْكِ الْإِيمَانِ؟ ⦗٧٧١⦘ فَإِنْ قَالُوا: لَا فَقَدْ أَقَرُّوا بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ فَرْضُهُ بَعْدَ مَا بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُقَالُ لَهُمْ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ، وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء: ١٦٤] . خَبِّرُونَا عَنْ أُولَئِكَ الَّذِي أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ هَؤُلَاءِ الرُّسُلَ الَّذِينَ لَمْ يَقْصُصْهُمْ عَلَيْنَا، وَلَمْ يُخْبِرْنَا بِأَسْمَائِهِمْ هَلْ كَلَّفَهُمُ اللَّهُ الْمَعْرِفَةَ بِهَؤُلَاءِ الرُّسُلِ بِأَعْيَانِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ قِيلَ لَهُمْ: فَقَدْ لَزِمَ أُولَئِكَ مِنْ فَرْضِ الْإِيمَانِ مَا لَزِمَ أُولَئِكَ وَلَزِمَ أُولَئِكَ مِنْ فَرْضِ الْإِيمَانِ مَا لَمْ يَلْزَمُنَا، لِأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا أُولَئِكَ الرُّسُلَ وَعَايَنُوهُمْ وَأَخْبَرُونَا بِأَسْمَائِهِمْ فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَتُهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَعْيَانِهِمْ، وَالْإِقْرَارُ وَالتَّصْدِيقُ بِأَنَّهُمْ رُسُلُ اللَّهِ وَلَمْ نُدْرِكْهُمْ نَحْنُ، وَلَمْ نُعَايِنْهُمْ، وَلَا أَخْبَرَنَا بِأَسْمَائِهِمْ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْنَا مِنَ الْإِيمَانِ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَعْيَانِهِمْ مَا وَجَبَ عَلَى أُولَئِكَ، وَكَذَلِكَ مَنْ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْفَرَائِضِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَوْ يُنْزِلُهَا جُمْلَةً فِي أَوَّلِ مَا بَعَثَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُؤْمِنًا، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ الْفَرَائِضَ، وَفَسَّرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ⦗٧٧٢⦘ فَعَرَّفَهَا وَعَرَّفَ تَفْسِيرَهَا فَمَنْ آمَنَ بِهَا زَادَ إِيمَانًا إِلَى إِيمَانِهِ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: ١٢٤] وَذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ الْأَوَّلَ يَحْمِلُ الْفَرَائِضَ الَّتِي نَزَلَتْ وَيُنَزِّلُ كَانَ هُوَ الْإِيمَانُ مَا لَمْ يُكَلِّفُوا الْإِيمَانَ بِتَفْسِيرِ الْفَرَائِضِ الَّتِي نَزَلَتْ وَالَّتِي تَنْزِلُ فَإِذَا نَزَلَتِ الْفَرَائِضُ وَفُسِّرَتْ لَهُمْ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانَ بِتَفْسِيرِهَا كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانُ بِجُمْلَتِهَا وَصَارَ الْإِيمَانُ بِتَفْسِيرِهَا مَضْمُومًا إِلَى الْإِيمَانِ الْأَوَّلِ فَصَارَ إِيمَانُهُمْ أَكْمَلَ. فَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْإِيمَانِ غَيْرُ مُسْتَوِينَ إِذْ كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدِ افْتَرَضَ عَلَى الْأَوَّلِينَ مِنَ الْإِيمَانِ مَا لَمْ يَفْتَرِضُ عَلَى الْآخِرِينَ، وَافْتَرَضَ عَلَى الْآخِرِينَ مَا لَمْ يَفْتَرِضُ عَلَى الْأَوَّلِينَ نَحْوًا مِمَّا وَصَفْتُ لَكَ مِنْ مَعْرِفَةِ الرُّسُلِ بِأَعْيَانِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ وَحُدُودِ الْفَرَائِضِ الَّتِي افْتُرِضَتْ عَلَيْهِمْ، وَتَفْسِيرِهَا فَكُلُّ مَنْ أَدَّى مَا كُلِّفَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْفَرْضِ عَلَيْهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُسْتَكْمِلٌ لِمَا افْتُرِضَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَكْثَرَ إِيمَانًا ⦗٧٧٣⦘ وَأَكْثَرَ مِنْهُ إِذْ كُلِّفَ مِنَ الْإِيمَانِ مَا لَمْ يُكَلَّفْ هُوَ. وَيُقَالُ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ فِي رَجُلٍ نَوَى أَنْ يَكْفُرَ غَدًا لِمِيرَاثٍ طَمِعَ أَنْ يُصِيبَهُ أَوْ غَيْرُهُ؟ فَإِنْ قَالُوا: هُوَ كَافِرٌ، قِيلَ لَهُمْ: فَكَيْفَ أَخَرَجْتُمُ الْمُؤْمِنَ مِنْ إِيمَانِهِ بِنِيَّتِهِ أَنْ يَكْفُرَ غَدًا فَهَلْ أَخَرَجْتُمُ الْكَافِرَ مِنْ كُفْرِهِ بِنِيَّتِهِ أَنْ يُؤْمِنَ غَدًا؟ فَإِنْ قَالُوا: بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا يَكْفُرُ غَدًا فَقَدْ تَرَكَ الْخُضُوعَ، وَالْإِنْكَارَ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ فَمِنْ ثَمَّ أَكْفَرْنَاهُ، وَالْكَافِرَ أَخَّرَ الْإِذْعَانَ لِلَّهِ وَالْخُضُوعَ لَهُ وَنَوَاهُ فَلَمْ يُخْرِجْهُ ذَلِكَ مِنْ كُفْرِهِ. قِيلَ لَهُمْ: أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَفِي وَقْتِهِ مُذْعِنٌ خَاضِعٌ إِذْ لَمْ يَتَعَجَّلِ الْكُفْرَ فَيَعْتَقِدُهُ، وَإِنَّمَا أَخَّرَ الْكُفْرَ وَلَزِمَ الْخُضُوعُ لِلَّهِ فَلَمْ يَدَعْهُ، وَلَوْ زَايَلَهُ الْخُضُوعُ مَا أَخَّرَ الْكُفْرَ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ لَوْلَا مُزَايَلَةُ الْخُضُوعِ لَهُ لَآمَنَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا نَوَى أَنْ يَخْضَعَ بَعْدَ وَقْتِهِ فَإِنْ كَانَ نِيَّتُهُ أَنْ يَخْضَعَ بَعْدَ وَقْتِهِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ كُفْرِهِ فَكَذَلِكَ نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ أَنْ لَا يَخْضَعَ بَعْدَ وَقْتِهِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ إِيمَانِهِ لِأَنَّ الْكَافِرَ أَوْرَدَ النِّيَّةَ بِخُضُوعٍ يَتَأَخَّرُ عَلَى أَنَّهَا لَازِمٌ، وَالْمُؤْمِنُ أَوْرَدَ لِلَّهِ تَائِبًا مُتَأَخِّرًا عَلَى خُضُوعٍ لَازِمٍ فَلَا فُرْقَانَ بَيْنَ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَحْكُمُوا عَلَيْهِمَا بِحَالَيْهِمَا فِي وَقْتَيْهِمَا اللَّذَيْنِ هُمَا فِيهِمَا أَوْ بِحَالَيْهِمَا اللَّذَيْنِ لَمْ يَأْتِيَا، وَلَا فُرْقَانَ بَيْنَ ذَلِكَ، وَأُخْرَى أَيْنَ وَجَدْتُمْ أَنَّ النِّيَّةَ فِي عَيْنِهَا إِيمَانٌ أَوِ الْخُضُوعُ فِي عَيْنِهِ إِيمَانٌ إِذَا كَانَ الْكَافِرُ مُنْكِرًا لِلَّهِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ نَاو لَا يَكْذِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَقَدْ ثَبَتُّمُ الْإِرَادَةَ وَالْخُضُوعَ إِيمَانًا وَزَوَالَهُمَا كُفْرًا، فَلَمْ يَنْفَعِ الْكَافِرَ إِذْ لَمْ يَتَعَجَّلْهَا فَهَلَّا نَفَعَتِ الْمُؤْمِنَ إِذْ تَعَجَّلَهَا فَقَدْ أَكْفَرْتُمْ مَعَ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ بِالنِّيَّةِ لِأَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا لَعَلَّهُ لَا يَفْعَلُهُ، وَقَدْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْكُمْ فِي الْقِيَاسِ أَنْ شَهِدَ لِلْكَافِرِ بِالْإِيمَانِ بِنِيَّتِهِ الَّتِي قَدَّمَهَا كَمَا لَمْ يَنْفَعِ الْمُؤْمِنَ مَعْرِفَتُهُ وَقَوْلُهُ بِلِسَانِهِ، وَخَرَجَ مِنَ الْإِيمَانِ بِالنِّيَّةِ لِلْكُفْرِ. فَكَذَلِكَ لَا يُكَفِّرُ الْكَافِرَ إِنْكَارُهُ بِقَلْبِهِ وَتَكْذِيبُهُ بِلِسَانِهِ مَعَ النِّيَّةِ الَّتِي قَدَّمَهَا أَنْ يُؤْمِنَ غَدًا. فَإِنْ هُمْ سَأَلُونَا، فَقَالُوا: مَا تَقُولُونَ أَنْتُمْ فِي ذَلِكَ قِيلَ لَهُمْ: إِنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ هُوَ عِنْدَنَا الْمَعْرِفَةَ وَحْدَهَا، وَلَا الْقَوْلَ وَحْدَهُ لَأَنَّا قَدْ وَجَدْنَا الْمُنَافِقِينَ يُقِرُّونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَهُمْ كَافِرُونَ، وَوَجَدْنَا الْيَهُودَ قَدْ عَرَفُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِقُلُوبِهِمْ، وَهُمْ كَافِرُونَ فَلَمَّا كَانَتِ الْمَعْرِفَةُ فِي عَيْنِهَا إِذَا انْفَرَدَتْ لَا إِيمَانَ، وَكَانَ الْقَوْلُ إِذَا انْفَرَدَ لَا إِيمَانُ فَإِذَا ضُمَّا لَمْ يَكُونَا إِيمَانًا إِلَّا بِشَرِيطَةِ نِيَّتِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْئَيْنِ يَنْفَرِدَانِ خَارِجَيْنِ مِنْ بَعْضِ الْأَجْنَاسِ ثُمَّ يَجْتَمِعَانِ فَيَدْخُلَانِ فِي غَيْرِ جِنْسِهِمَا إِلَّا أَنْ يَزِيدَ فِيهِمَا مَعْنًى وَهُوَ أَنْ يَجُوزَ مَعْرِفَةٌ لَيْسَتْ بِمَعْرِفَةٍ تَسْبِقُ عَلَى كِتَابٍ سُمِعَ كَمَعْرِفَةِ الْيَهُودِ لَا مَعْرِفَةُ بَيَانٍ أَوْجَبَهَا الِاضْطِرَارُ فَإِبْلِيسُ عَايَنَ مَا لَمْ يَجِدْ لِلشَّكِّ فِيهِ مَسَاغًا يُعْرَفُ ثُمَّ أَبَى السُّجُودَ، وَإِنَّمَا الْمَعْرِفَةُ الَّتِي هِيَ إِيمَانٌ هِيَ مَعْرِفَةُ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَهَيْبَتِهِ، فَتَعَظُّمُ الْمَعْرِفَةِ تُعَظِّمُ الْقَدْرَ مَعْرِفَةٌ فَوْقَ مَعْرِفَةِ الْإِقْرَارِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ الْمُصَدِّقُ الَّذِي لَا يَجِدُ مَحِيصًا عَنِ الْإِجْلَالِ وَالْخُضُوعِ لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَلَا تُطَاوِعُهُ نَفْسُهُ وَلَا يَصْفُو لِنَفْسِهِ رِيبَةَ الْكُفْرِ لِأَنَّ النِّيَّةَ فِي الْكُفْرِ اسْتِهَانَةٌ بِالرَّبِّ وَالِاسْتِهَانَةُ ضِدُّ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَالْهَيْبَةِ فَإِذَا عَظُمَتْ مَعْرِفَتُهُ تَعْظِيمَ قَدْرِهِ لَمْ تَبُحْ نَفْسُهُ بِنِيَّةِ الْكُفْرِ وَلَوْ قُطِعَ أَعْضَاؤُهُ فَمِنْ ثَمَّ كَانَ هَذَا الْمُؤْمِنُ لَمَّا نَوَى الْكُفْرَ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْكُفْرَ وَيَعْتَقِدُهُ لَدَيْنَا، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ تَدَيُّنٍ حَتَّى صَغُرَ قَدْرُ الرَّبِّ عِنْدَهُ فَاسْتَهَانَ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُصَدِّقٍ وَلَا مُؤْمِنٍ لِأَنَّ التَّعْظِيمَ لَا يُقَارِنُ الِاسْتِهَانَةَ وَالتَّصْدِيقَ لَا يُقَارِنُ نِيَّةَ التَّكْذِيبِ وَكَيْفَ يَفْتَرِقَانِ وَهُمَا ضِدَّانِ وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ لَوْ كَانَ بَعَثَهُ عَلَى نِيَّةِ الْإِيمَانِ مَعْرِفَتُهُ لِلَّهِ بِتَحْقِيقِهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا مَا أَخَّرَ ذَلِكَ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَفِي تَأْخِيرِهِ ذَلِكَ أَمْنٌ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَهَانَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ لَا مَحَالَةَ وَكِلَاهُمَا كَافِرَانِ بِغَيْرِ الْجَوَابِ الَّذِي أَجَبْتُمْ. فَبِذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ يُوجِبُ الْإِجْلَالَ لِلَّهِ وَالتَّعْظِيمَ لَهُ، وَالْخَوْفَ مِنْهُ وَالتَّسَارُعَ إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ عَلَى قَدْرِ مَا وَجَبَ فِي الْقَلْبِ فِي عَظِيمِ الْمَعْرِفَةِ وَقَدْرِ الْمَعْرُوفِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَيُقَالُ لَهُمْ: قَوْلُكُمْ إِنَّ الْقَوْلَ بِاللِّسَانِ إِيمَانٌ مَعَ الْمَعْرِفَةِ أَيُّهُمَا أَصْلٌ لِلْآخَرِ؟ فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ الْقَوْلَ بِاللِّسَانِ أصل للإيمان، فَقَدْ أَوْجَبُوا لِلْمُنَافِقِينَ أَصْلَ الْإِيمَانِ إِذْ يَشْهَدُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَقَدْ أَكْذَبَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ ثُمَّ أَخْبَرَ عَنِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ قَالُوا: آمَنَّا، فَقَالَ: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: ١٤] فَأَخْبَرَ أَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِيمَانٍ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ الْإِيمَانَ أَوَّلَهُ عَلَى الْقَلْبِ فَقَالَ: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: ١٤] وَقَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: ٨] فَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى إِكْفَارِ مَنْ أَقَرَّ بِلِسَانِهِ وَقَلْبُهُ مُنْكِرٌ. وَإِنْ قَالُوا: إِنَّ الْمَعْرِفَةَ أَصْلُ الْإِيمَانِ. قِيلَ لَهُمْ: فَالْإِقْرَارُ أَصْلٌ ثَانٍ مُضَافٌ إِلَيْهِ أَوْ فَرْعٌ لَهُ؟ فَإِنْ قَالُوا: أَصْلٌ ثَانٍ، قِيلَ لَهُمْ: فَمَنْ جَاءَ بِالْمَعْرِفَةِ، وَلَمْ يَأْتِ بِالْأَصْلِ الثَّانِي لِطَلَبِ دُنْيَا أَوِ اسْتِكْبَارٍ عَنِ اتِّبَاعِ الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا يَزُولُ عَنْ رِيَاسَةٍ أَوْ غَيْرِهَا إِلَّا أَنَّهُ عَارِفٌ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا حَالُهُ عِنْدَكُمْ؟ فَإِنْ قَالُوا: كَافِرٌ، قِيلَ لَهُمْ: كَافِرٌ لَيْسَ فِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ شَيْءٌ أَوْ قَدْ جَاءَ بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ؟ فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ فِيهِ مِنَ الْإِيمَانِ شَيْءٌ فَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ مَعْرِفَةَ الْقَلْبِ هُوَ قَوْلُ اللِّسَانِ إِذْ كَانَ زَوَالُ الْمَعْرِفَةِ هُوَ تَرْكُ الْقَوْلِ، وَهَذَا التَّنَاقُضُ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ إِذَا أَقَرَّ بِاللِّسَانِ كَانَ عَارِفًا مِنْ قَبْلِ الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ، وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا بِقَلْبِهِ فَإِنْ كَانَ قَدْ تَجَامَعَ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ الْقَوْلَ بِاللِّسَانِ فَكَذَلِكَ تُجَامِعُ الْمَعْرِفَةُ تَرْكَ الْقَوْلِ بِاللِّسَانِ، وَلَوْ كَانَ فِي زَوَالِ الْمَعْرِفَةِ زَوَالُ الْقَوْلِ وَكَانَ لَا يُقِرُّ بِاللِّسَانِ مُنْكَرًا كَمَا لَمْ يَعْرِفُ الْقَلْبُ مُنْكَرًا بِاللِّسَانِ أَبَدًا عَلَى قِيَاسِ مَا قُلْتُمْ. فَإِنْ قَالُوا: الْإِقْرَارُ فَرْعٌ لِأَصْلِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ الْمَعْرِفَةُ. قِيلَ لَهُمْ: فَتَرْكُ الْفَرْعِ يَذْهَبُ بِالْأَصْلِ أَوْ يَبْقَى الْأَصْلُ عَلَى حَالِهِ، وَأَزَالَ الْفَرْعَ؟ فَإِنْ قَالُوا: يَذْهَبُ الْأَصْلُ، قِيلَ لَهُمْ: فَالْأَصْلُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ فِي زَوَالِهِ زَوَالُ الْفَرْعِ فَقَدْ وَجَدْنَاهُ مُقِرًّا مُنْكَرًافَكَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ عَارِفٌ مُنْكِرٌ. فَإِنْ قَالُوا: هُوَ عَارِفٌ تَارِكٌ لِلْإِقْرَارِ بِلِسَانِهِ. قِيلَ: وَلَمْ يُسَمِّهِ اللَّهُ مُؤْمِنًا مَعَ تَرْكِ الْإِقْرَارِ بِلِسَانِهِ. وَقِيلَ لَهُمْ: إِبْلِيسُ إِنَّمَا كَفَرَ بِتَرْكِ الْفَرْعِ، وَلَمْ تَنْفَعْهُ الْمَعْرِفَةُ وَلَيْسَ الْقَوْلُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ فِي شَيْءٍ لِأَنَّهُ فَرْعٌ مُضَافٌ إِلَيْهَا بِالِاسْمِ لَا مِنْ جِنْسِهَا، وَإِنَّمَا الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ يَكُونُ عَنْهَا وَلَيْسَ هُوَ بِهَا، وَلَا مِنْ جِنْسِهَا لِأَنَّ الْأَصْوَاتَ، وَالْحُرُوفَ، وَالْحَرَكَاتِ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الضَّمِيرِ فِي شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ الْإِيمَانُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِفَرْعٍ عَنِ الْمَعْرِفَةِ وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا، فَمَا أَنْكَرْتُمْ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالصَّلَاةِ وَلَيْسَتْ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْمَعْرِفَةِ وَلَكِنْ عَنْهَا يَكُونُ. فَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّ بَيْنَهُمَا فُرْقَانًا، فَمَا الْفُرْقَانُ؟ اللُّغَةُ يَدْعُونَهَا فِي مَجَازِ اللُّغَاتِ أَوْ حَقِيقَةُ مَعْنًى؟ فَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ يَقُولُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ: فُلَانٌ صَدَقَنِي بِلِسَانِهِ فَسَمَّوُا الْإِقْرَارَ تَصْدِيقًا. قِيلَ لَكُمْ: لَيْسَ يَخْلُو مَا ادَّعَيْتُمْ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ تَعْنِي بِقَوْلِهَا صَدَقَنِي فُلَانٌ بِلِسَانٍ أَيْ أَنَّهُ آمَنَ بِقَوْلٍ بِلِسَانِهِ، وَقَلْبُهُ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ، أَوْ تَكُونَ تَعْنِي أَنَّهُ صَدَقَنِي بِقَلْبِهِ فَآمَنَ بِقَوْلِي ثُمَّ عَبَّرَ لِي عَمَّا فِي قَلْبِهِ أَنِّي صَادِقٌ عِنْدَهُ، فَإِنْ كَانَتْ تَعْنِي أَنَّهُ آمَنَ بِلِسَانِهِ دُونَ قَلْبِهِ فَقَدْ ثَبَتَ الْإِيمَانُ بِاللِّسَانِ، وَإِنْ كَانَ الْقَلْبُ مُنْكِرًا وَإِنْ كَانَتْ إِنَّمَا تَعْنِي أَنَّهُ إِنَّمَا عَبَّرَ عَمَّا فِي قَلْبِهِ فَقَدْ دَلَّلَ بِذَلِكَ أَنَّ الْعِبَارَةَ لَيْسَتْ بِالْمُعَبِّرَةِ عَنْهُ، وَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّهَا مَعْنًى ثَالِثٌ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا تَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ، وَالْآخَرُ تَحْقِيقٌ لِمَا فِي قَلْبِهِ. قِيلَ لَكُمْ: تَحْقِيقٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ آمَنَ أَوِ الْإِيمَانُ قَائِمٌ فِي اللِّسَانِ؟ فَإِنْ قَالُوا: قَائِمٌ فِي اللِّسَانِ فَقَدْ فَرَغْنَا مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ قَالُوا: تَحْقِيقٌ لَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَإِلَّا عَانَدُوا اللُّغَةَ وَخَالَفُوا الْفُرْقَانَ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: ١٤] فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فِي الْقَلْبِ وَأَخْبَرَ أَنَّ قَوْلَهُمْ لَيْسَ بِإِيمَانٍ إِذْ قَالَ: لَمْ تُؤْمِنُوا. فَقَدْ دَلَّ أَنَّ قَوْلَ الْإِنْسَانِ لَيْسَ بِإِيمَانٍ فِي عَيْنِهِ حَتَّى يَكُونَ عِبَارَةً عَمَّا فِي الْقَلْبِ. وَأَمَّا اللُّغَةُ فَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُهَا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ صَدَقْتَ فِي أَنَّ لَكَ عَلَيَّ حَقٌّ أَنَّهُ إِقْرَارٌ بِلِسَانِهِ وَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَقَرَّ لَهُ لِرَهْبَةٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِحَقِّهِ فَذَلِكَ مِنْهُ كَذِبٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤْمِنٍ بِمَا يَقُولُ أَوْ يَكُونُ عَارِفًا بِذَلِكَ بِقَلْبِهِ مُصَدِّقًا لَهُ، وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَمَّا فِي قَلْبِهِ تَحْقِيقُ إِيمَانِهِ بِقَلْبِهِ فَيَقُولُونَ قَدْ آمَنَ بِمَا قَالَ، وَصَدَّقَ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَبَ مِنْهُ حَقَّهُ فَقَالَ: لِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِينَارٍ أَوْ هَذَا الثَّوْبُ الَّذِي عَلَيْكَ لِي فَخَلَعَهُ فَنَاوَلَهُ إِيَّاهُ أَوْ وَزَنَ لَهُ أَلْفَ دِينَارٍ فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ فَقَالُوا: قَدْ صَدَّقَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ حَقَّهُ، وَلَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ مَا أَعْطَاهُ فَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ تَحْقِيقًا لِمَا فِي الْقَلْبِ يَدُلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ مُصَدِّقٌ بِاللَّهِ وَبِمَا قَالَ فَكَذَلِكَ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ الْمُفْتَرَضَةِ هِيَ مُحَقِّقَةٌ لِلتَّصْدِيقِ مُكَمِّلَةٌ لَهُ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ إِنَّمَا يَكْمُلُ إِيمَانُهُ بِأَنْ يَرْفَعَ لِسَانَهُ وَيَضَعُهُ بِالتَّوْحِيدِ فَكَذَلِكَ يَكْمُلُ إِيمَانُهُ بِأَنْ يَضَعَ وَجْهَهُ لِلَّهِ فِي التُّرَابِ تَوْحِيدًا لَهُ بِذَلِكَ لَا يُرِيدُ غَيْرَهُمَا كِلَاهُمَا جَارِحَتَانِ غَيْرُ الْقَلْبِ وَغَيْرُ عَمَلِهِ وَلَا فُرْقَانَ بَيْنَ ذَلِكَ إِلَّا ادِّعَاءُ اللُّغَةِ الَّتِي قَدْ تَدَاوَلَتْهَا الْعَرَبُ بَيْنَهَا، يُرِيدُ بِهِ الْعِبَارَةَ بِعَيْنِهَا أَنَّ الْإِقْرَارَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ، وَقَدْ يُسَمَّى فِعْلُ الْجَوَارِحِ أَيْضًا تَصْدِيقًا، لَوْ قَالَ قَائِلٌ لِرَجُلٍ: إِنَّ فُلَانًا قَتَلَ وَلَدَكَ فَشَدَّ عَلَى قَاتِلِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ لِلْمُخْبِرِ لَهُ صَدَقْتَ لَشَهِدَتِ الْقُلُوبُ أَنَّهُ قَدْ صَدَّقَهُ بِفِعْلِهِ وَمَعَ شَهَادَتِهِمَا فَهِيَ عَالِمَةٌ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ تَحْقِيقٌ لِتَصْدِيقِ قَلْبِهِ لَا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ إِيمَانٌ بِالْقَلْبِ وَمِنْ ذَلِكَ تَصْدِيقًا مِنْهُمْ تَحْقِيقًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَلَمْ يُخْبِرْنَا أَنَّهُمْ قَالُوا: صَدَقْتَ هُوَ عَلَيْنَا ثُمَّ سَجَدُوا، وَأَبَى إِبْلِيسُ أَنْ يَسْجُدَ وَلَمْ يَقُلْ إِنَّكَ لَمْ تَأْمُرْنِي بِالسُّجُودِ فَكَانَ إِبَاؤُهُ كُفْرًا لَا أَنَّهُ جَحَدَ بِلِسَانِهِ فَكَانَ سُجُودُهُمْ إِيمَانًا كَمَا كَانَ إِبَاؤُهُ كُفْرًا فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ إِذَا أَقَرَّ شَهِدَتِ الْقُلُوبُ أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِلظَّاهِرِ، وَإِنْ لَمْ يَقْطَعُوا بِالْغَيْبِ وَهُمْ عَارِفُونَ أَنَّ قَوْلَ اللِّسَانِ لَيْسَ هُوَ الْإِيمَانُ بِالْقَلْبِ وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا فِي الْقَلْبِ، وَلَنْ تَجِدُوا بَيْنَ ذَلِكَ فُرْقَانًا إِلَّا بِالْمُكَابَرَةِ. وَيُقَالُ لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ سَوَّغْنَا لَكُمْ أَنَّ الْعِبَارَةَ عَمَّا فِي الْقَلْبِ بِالْإِقْرَارِ هُوَ فِي عَيْنِهِ إِيمَانٌ كَالْمَعْرِفَةِ بِالْقَلْبِ، أَرَأَيْتُمْ هَذَا الْإِقْرَارَ الَّذِي هُوَ إِيمَانٌ مَتَى يَكُونُ إِيمَانًا إِذَا كَانَ كَافِرًا قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِذَا أَقَرَّ فَبَدَّلَ الْجَحْدَ الْأَوَّلَ أَوْ أَقَرَّ كَانَ إِيمَانًا أَوْ إِذَا جَاءَ بِالْإِقْرَارِ وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا عَلَى غَيْرِ جَحْدٍ فَأَتَى بِالْإِقْرَارِ فِي وَقْتِ الْبُلُوغِ أَوْ خَلَقَهُ اللَّهُ بَالِغًا فَأَقَرَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ؟ فَإِنْ قَالُوا: إِنَّمَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ إِيمَانًا فَمَنْ كَانَ جَاحِدًا مِنْ قَبْلُ فَقَدْ أَخْرَجُوا الْمَلَائِكَةَ وَآدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَكُلَّ نَاشِئٍ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ أَنْ يَكُونَ آمَنَ بِاللَّهِ قَطُّ، وَلَا يَقُولُ هَذَا أَحَدٌ. وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُ إِيمَانٌ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ جَاحِدًا كَانَ أَوْ نَاسِيًا أَوْ خُلِقَ بَالِغًا بِغَيْرِ طُفُولِيَّةٍ كَالْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ. قِيلَ لَهُمْ: فَإِذَا كَانَ هَكَذَا فَلَمْ يُسَمَّ إِقْرَارًا إِلَّا أَنَّهُ اعْتِرَافٌ لِلرَّبِّ بِوَحْدَانِيَّتِهِ وَبِمَا قَالَ، أَوْ لِأَنَّهُ اعْتِرَافٌ، وَهُوَ وَاجِبٌ؟ فَإِنْ قَالُوا: لِأَنَّهُ اعْتِرَافٌ فِي عَيْنِهِ لَا أَنَّهُ أَوْجَبَهُ. قِيلَ لَهُمْ: فَكُلَّمَا جَاءَ بِالِاعْتِرَافِ فَهُوَ إِيمَانٌ. وَإِنْ قَالُوا: لِأَنَّهُ اعْتِرَافٌ وَأَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَهُ. قِيلَ لَهُمْ: فَكُلَّمَا جَاءَ بِهِ اعْتِرَافًا وَاجِبًا فَهُوَ إِيمَانٌ. فَإِنْ قَالُوا: لَا، نَاقَضُوا قَوْلَهُمْ. وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِنْ قَلْبٍ صَادِقٍ فَقَدْ أَقَرَّ، وَمَعْنَى أَقَرَّ: اعْتَرَفَ، فَإِذَا كَانَ هَذَا إِيمَانًا فَكُلَّمَا وَحَّدَ اللَّهَ أَبَدًا إِلَى أَنْ يَمُوتَ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُعْتَرِفٌ عَنْ قَلْبٍ صَادِقٍ فَهُوَ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ يُوَحِّدُ فِيهَا يَزْدَادُ إِيمَانًا، وَكُلُّ وَقْتٍ يَشْتَغِلُ قَلْبُهُ بِالْمَعَاصِي فَلَا يَنْشَرِحُ لِلْقَوْلِ بِالِاعْتِرَافِ، وَلَا يَعْظُمُ فِي قَلْبِهِ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَيَفْزَعُ إِلَى تَوْحِيدِهِ فَهُوَ أَنْقَصُ مِنْهُ فِي الْحَالِ الْأُولَى الَّتِي عَظَّمَ بِقَلْبِهِ الْمُعْتَرِفِ بِهِ حَتَّى حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِلِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ نَقْصًا بِتَصْدِيقِهِ بِقَلْبِهِ، أَنَّ اللَّهَ حَقٌّ لَا بَاطِلٌ، وَلَكِنَّهُ نَقَصَ مِنْ تَرْكِهِ الِاعْتِرَافَ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ كَالتَّشَهُّدِ وَالذِّكْرِ فِي الصَّلَاةِ الَّذِي كَانَ يَأْتِي بِهِ الْيَوْمَ مِرَارًا كَثِيرَةً مِنْ تَعْظِيمٍ لِلَّهِ بِقَلْبِهِ. فَإِنْ قَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ التَّكْرَارَ لِلتَّوْحِيدِ لَيْسَ هُوَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ مِنَ الْإِيمَانِ. قِيلَ لَهُمْ: فَقَدْ ثَبَتُّمْ عَنْ ضَمَائِرِكُمِ أَنَّ الِاعْتِرَافَ إِنَّمَا يَكُونُ تَوْحِيدًا وَإِيمَانًا مَعَ الْوُجُوبِ أَفَرَأَيْتُمُ التَّشَهُّدَ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّوْحِيدَ فِي الْأَذَانِ أَتَوْحِيدٌ لَهُ؟ وَكَذَلِكَ الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ بِالْحَمْدِ إِذَا قَرَأَ فِي صَلَاتِهِ فَقَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: ٢] فَقَدْ أَخْلَصَ لِلَّهِ بِالتَّوْحِيدِ وَأَقَرَّ أَنَّهُ رَبُّ الْخَلَائِقِ، وَكَذَلِكَ التَّشَهُّدُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ مُفْتَرَضَةٍ، وَكَذَلِكَ التَّلْبِيَةُ أَوَّلَ مَا يُحْرِمُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا مَرَّةً فَكَذَلِكَ جَمِيعًا كُلُّهُ إِيمَانٌ إِنْ كَانَ كُلُّ اعْتِرَافٍ وَاجِبٍ يَكُونُ إِيمَانًا. فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ هُوَ إِيمَانًا لِأَنَّهُ وَاجِبٌ، وَلَكِنَّهُ اعْتِرَافٌ فِي عَيْنِهِ فِي أَوَّلِ مَا يُصَدِّقُ بِهِ. قِيلَ لَهُمْ: هَذِهِ دَعْوَى مِنْكُمْ فَمَا جَعَلَهُ أَوَّلًا إِيمَانًا وَآخِرًا لَا إِيمَانٌ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ؟ . فَإِنْ قَالُوا: وَجَدْنَا جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَوَّلَ مَا يُسْلِمُ. قِيلَ: آمَنَ، وَإِذَا كَرَّرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُقَلْ: آمَنَ. قِيلَ لَهُمْ: فَقَدْ ثَبَتُّمْ أَنَّ مَعْنَاكُمْ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِكُمْ: إِنَّ الْإِقْرَارَ إِنَّمَا يَكُونُ إِيمَانًا فَمَنْ كَانَ جَاحِدًا مِنْ قَبْلُ فَقَطْ، وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ عَلَى كُلِّ مَلَكٍ وَرَسُولٍ وَنَاشِئٍ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِلِسَانِهِ قَطُّ؟ . فَإِنْ قَالُوا: لَسْنَا نَقُولُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَهُ: إِنَّ الطِّفْلَ إِذَا بَلَغَ فَأَقَرَّ فِي وَقْتِ بُلُوغِهِ فَذَلِكَ مِنْهُ إِيمَانٌ فَإِنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ إِيمَانٌ تِلْكَ السَّاعَةِ قِيلَ لَهُمْ فَهَلْ رَأَيْتُمُ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ لِطِفْلٍ إِذَا بَلَغَ فَيَشْهَدُ آمَنَ السَّاعَةَ؟ أَوْ يَعْمَلُونَ أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ إِلَّا تِلْكَ السَّاعَةُ ثُمَّ أَتَى بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلَا يَقُولُونَ إِنَّهُ آمَنَ السَّاعَةَ فَيُوهِمُونَ أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا مِنْ قَبْلُ وَلَكِنْ يَقُولُونَ: الْآنَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ، وَقَدْ كَانَ مِنْ قَبْلُ أَنْ تَأْتِيَ بِهِ مُؤْمِنًا وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَهَذَا اعْتِرَافٌ فِي عَيْنِهِ أَوَّلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنِ اعْتِرَافٌ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ مَا كَانَ أَحَدٌ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ اعْتِرَافًا وَخُضُوعًا لِلَّهِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَكِنَّهُ مَعْقُولٌ أَنَّهُ لَا يُزَايِلُهُ اسْمُ الِاعْتِرَافِ مَتَى أَتَى بِهِ لِأَنَّهُ اعْتِرَافٌ فِي عَيْنِهِ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ مَا أَدَّاهُ فِي أَوَّلِ الْوُجُوبِ ثُمَّ هُوَ يُكَرِّرُهُ فِي الْفَرَائِضِ وَغَيْرِهَا، وَلَوْ كَانَ فِي عَيْنِهِ هُوَ الْإِيمَانُ لَا لِأَنَّهُ اعْتِرَافٌ عَمَّا فِي الْقَلْبِ لَكَانَ إِذَا سَكَتَ كَفَرَ لِأَنَّ ضِدَّ الْكَلَامِ السُّكُوتَ كَمَا أَنَّ ضِدُّ الْمَعْرِفَةِ الْإِنْكَارَ. وَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّمَا يَأْتِي بِضِدِّهِ إِذَا جَحَدَ بِلِسَانِهِ. قِيلَ: كَيْفَ يَأْتِي بِضِدِّهِ بَعْدَ مَا قَدْ نَقَضَ؟ وَهَلْ يَكُونُ لِلْفَانِي ضِدٌّ يُزِيلُهُ، وَكَيْفَ يُزِيلُ الْمُوجُودُ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ لِأَنَّهُ قَدْ فَنِيَ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ وَأَعْقَبَهُ السُّكُوتُ، ثُمَّ جَاءَ بِالْجَحْدِ بِلِسَانِهِ فَزَالَ السُّكُوتُ، ثُمَّ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ قَدْ زَالَ مَا كَانَ قَدْ زَالَ مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ النَّهَرُ إِذَا ذَهَبَ ثُمَّ جَاءَ اللَّيْلُ ثُمَّ جَاءَ الصُّبْحُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي ضِدًّا لِلْأَوَّلِ فَأَزَالَ مَا قَدْ زَالَ، وَقَدْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ وَهُوَ اللَّيْلُ كَمَا كَانَ السُّكُوتُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالْجَحْدِ. فَإِنْ زَعَمُوا: أَنَّ الِاعْتِرَافَ كَانَ عَنْ خُضُوعٍ مِنَ الْقَلْبِ فَلَمَّا جَاءَ الْجَحْدُ لَمْ يَأْتِ حَتَّى زَالَ خُضُوعُ الْقَلْبِ قِيلَ: فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْخُضُوعُ مَعَ الْمَعْرِفَةِ، وَأَنَّ الْقَوْلَ عِبَارَةٌ عَنْهُ، فَلَمَّا جَاءَ بِقَوْلٍ خِلَافَ ذَلِكَ لَمْ يَأْتِ بِهِ إِلَّا عَنْ زَوَالِ الْخُضُوعِ عَنِ الْقَلْبِ وَهُوَ الْإِبَاءُ أَنْ يُقِرَّ بِلِسَانِهِ لِاسْتِنْكَافٍ أَوْ طَمَعٍ فِي دُنْيَا أَوْ طَلَبِ رِيَاسَةٍ فَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أَتَى بِالْقَوْلِ، وَالْخُضُوعُ فِي الْقَلْبِ عَلَى حَالِهِ فَإِنَّهُ يَزْدَادُ إِيمَانًا إِذَا كَانَ عِبَارَةً عَنِ الْخُضُوعِ فِي الْقَلْبِ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَلَمْ يَتَقَلَّبْ إِلَّا زَالَهُ أَوْ لَا يَحِقُّ فِيهِ الْوُجُوبُ لَمْ يُكَرِّرْهُ وَاجِبًا، وَغَيْرُ وَاجِبٍ إِنَّ الْخُضُوعَ دَائِمٌ فِي الْقَلْبِ بِحَالِهِ، وَالْقَوْلُ كَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَيْسَ بَيْنَ ذَلِكَ فُرْقَانٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» فَسَمَّى الشَّهَادَةَ إِيمَانًا فَمَتَى مَا وُجِدَتِ الشَّهَادَةُ مِنْ قَلْبٍ مُخْلِصٍ مُصَدِّقٍ فَهِيَ إِيمَانٌ، وَقَائِلُهَا مُزْدَادٌ إِيمَانًا إِلَى إِيمَانِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>