تنحيت فكنت قريبًا، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمروا علي حبشيًا لسمعت وأطعت].
* في هذا الحديث من الفقه أن الحال التي جرت بينه وبين معاوية حال يسوغ فيها الخلاف، فإن أبا ذر وافق معاوية في أنها نزلت في أهل الكتاب وزاد في المسلمين، وقال معاوية: بل نزلت في أهل الكتاب خاصة، والذي أرى أن الذي فر منه معاوية هو أن العذاب والوعيد بالنار إذا صرف إلى أهل الكتاب فإنه منصرف متوجه، وما رآه أبو ذر من إطلاق القول فمصروف متوجه أيضًا.
* فأما شكواه إلى عثمان فإنه فيما أراه أنه لما رأى من زهد أبي ذر وتأويله الأشد، وأنه ربما ينقل عنه من لا يأمن أن ينتشر عنه، فيثير فتنة أو يهيج خروجًا على إمارته (١٧٣/ ب) في غير حق؛ لذلك رأى أن ينهيه إلى عثمان فيدبره برأيه إذ ليس في هذا الحديث أنه سأله أن يستدعيه إنما شكاه إلى عثمان، وإنما عثمان أقدمه المدينة، ولما قدم المدينة اجتمع الناس على أبي ذر كأنهم لم يروه من قبل حتى خاف أبو ذر بأن يذكر تلك الحال لعثمان، وكأنه شكاها إليه، فقال له عثمان:(إن شئت تنحيت فكنت قريبًا) وقوله: (إن شئت) يدل على أنه خيره ورد ذلك إلى مشيئته، وأن أبا ذر خرج إلى الربذة اختيارًا منه، وليس كما يحكى أن عثمان أخرج أبا ذر إلى الربذة إبعادًا له ونفيًا، فإن نطق هذا الحديث يدل على خلاف ذلك، ويدل أيضًا قول أبي ذر: لو أمروا علي حبشيًا لسمعت وأطعت: أي أنني لم أكن لأشق عليهم العصا ولا أنازعهم في الأمر، ولا كان خروجي إلى الربذة إلا على ما ذكرت، وأنه ل بلغ الأمر على أن يؤمروا علي حبشيًا لسمعت وأطعت، مظهرًا بذلك طاعته لهم واعتقاده صحة ما هو عليه، وهذا هو الحق في ذلك، والله أعلم.