لكل علم من العلوم الشرعية أصولٌ يبنى عليها، وقواعدُ يحتكم إليها، لتثبيت دعائمه، وضبط مسائله، وتحديد استثناءاته، وشواذه. ولم يكن علم الحديث النبوي خلوا من ذلك، أو شافعا، بل حاز قصب السبق، وبلغ الغاية في إحكام الأسس والبنيان، وإرساء القواعد والأركان. ومما عني به المحدثون ضمن ذلك وضع ميزان دقيق للنظر في أحاديث الرواة، وفرز صحيحها، وسقيمها، والكشف عن غريبها، ومنكرها، ثم إعطاء كل راو الرتبة التي يستحقها في سلم الجرح، أو التعديل. وقد تولد هذا عن مسيس حاجة، وإلحاح طلب لاستكمال أهم جزء في ذلك البنيان.
ويجد الناظر في هذا أن وسائل النقاد قد تعددت في الفحص عن حال الرواة، فمنهم من عاصرهم وصحبهم، فخبر حالهم، وحكم عليهم بمقتضى ما عرفه عنهم من صدق وتيقظ، أو خرم ما في عدالة، أو ضبط. ومنهم من جمع أقوال الأئمة المتكلمين في الرجال، وفلاها فليا، ورجح بين المختلف فيها، وأعطى للراوي مرتبة استنادا لتلك الأقوال.
وهاتان الوسيلتان في الحكم على الراوي خاضعتان لتصور ذلك الناقد، وعلمه، وميوله، ونوازع نفسه، ولذلك قد يعتورها بعض ما يعلق بالإنسان من ميل وحيف، أوتشدد وتساهل، ونحو ذلك من العوارض.
كما أن كثيرا من الرواة-المتقدمين منهم بوجه أخص- لا يعرف فيهم ما يرفع جهالة حالهم، ولا وصل عنهم جرح، أو تعديل فكيف العمل مع هؤلاء؟ والكثير من الأحاديث إنما تروى من طريقهم؟
من هنا جاءت الحاجة إلى سبر مرويات الراوي للحكم له أو عليه، فما هو السبر يا ترى؟ وما هي ألفاظه عندهم؟ وما طريقتهم فيه؟ وما مدى قوته أو ضعفه؟