لم تعن أمّة من الأمم بميراث نبيّها وتعاليمه عناية الأمّة الإسلاميّة بميراث رسولها محمّد صلى الله عليه وسلم، فلم تدع قولا ولا فعلا ولا إقرارا ولا صفة ولا حركة ولا سكنة صدرت عنه في اليقظة أو في المنام في حال الإقامة أو الظعن في حال الأمن أو الخوف، إلا حفظت في الصدور وقيّدت في السطور، ثم ما لبثت أن دوّنت في دواوين كبيرة، فتهيّأت للتصنيف والتبويب والترتيب والدراسة والنقد والتمحيص، ونشأ عن هذه الحركة العلميّة المباركة علم فريد لم يعرف له مثيل عند الأمم الأخرى، وهو علم الحديث أو علم أصول الحديث أو علم المصطلح، ولعلّ في هذه التسمية الأخيرة دلالة واضحة على عناية أهل الحديث بعلمهم وتعاريفهم ومصطلحاتهم حتى سمّوا علمهم أو علومهم بالمصطلح.
ولئن كانت بذور هذا العلم وأصوله الكبرى مبثوثة في كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه إلا أنّ جحافل العلماء بداية من القرن الأوّل انكبّوا على دراسة السنّة وحفظها وتمحيصها، وقد رأوا في ذلك فريضة مقدّسة لا مناص من أدائها على الوجه الذي يرضي الله، فظهرت شذرات من المصطلحات والتعريفات، ونبذ من نفائس هذا العلم مبثوثة في مصنّفات القرون الأولى كمؤلّفات الإمام الشافعيّ والإمام أحمد وما تداوله تلاميذهم ومريدوهم من أسئلة وأجوبة ومحاورات، وكمقدّمة الإمام مسلم التي صدّر بها صحيحه، وكرسالة أبي داود السجستاني إلى أهل مكّة، وكجامع الإمام الترمذيّ وعلله وغيرها.. حتى إذا ما قطع القرن الرابع شوطا من الزمن شهد ميلاد أوّل كتاب ممحّض لهذا العلم الشريف جمع فيه ما تفرّق من تعاريف ومصطلحات، وقواعد، فكان القطر الذي يسبق انهمار الغيث النافع.