للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>

إذن فذلك النقص في علوم السنّة خلال القرن الرابع لم يصل إلى درجة اندراس آثار ازدهاره في القرن الثالث، هذا من جهة. ومن جهةٍ أخرى: فهو لم يُفقد جميعَ علماء السنة في ذلك العصر شيئاً من أدوات الاجتهاد فيه، فلم يزل فيهم أئمةٌ مجتهدون في العلم به، ومن أهل النقد فيه: بتمييز صحيحه من سقيمه، وتعليل رواياته، وجرح وتعديل رواته (١) .


(١) ومع استمرار الجرح والتعديل بعد القرن الرابع، كما هو معروف، وكما قرّره السخاوي في كتابه الذي أقامه لهذا الغرض (الإعلان بالتوبيخ لمن ذمّ التاريخ) ؛ إلا أن القاعدة التي ينطلق منها الجرحُ والتعديل في القرن الرابع وما قبله تختلف عنها في القرن الخامس فما بعده. ذلك أن الجرح والتعديل الصادر من علماء القرون الأربعة الأولى، وخاصة القرن الثالث فما قبله غالباً ما يعتمد على سبر المرويات لكل راوٍ، لكون الروايات كانت لم تزل تتلقى شفاهةً. أمّا القرن الخامس فما بعده، فعلى العكس من ذلك. ولذلك فإنك لو استعرضت تعديل علماء القرن الخامس لأهل عصرهم فإنه يعتمد على إثبات العدالة أو الستر فيها مع ثبوت أحقّية رواياته لما يروي من الدواوين، وصحّة نُسَخِهِ منها. وأمّا الجرح فيعتمد إما على انعدام العدالة وظهور الفسق، أو على خطأ أو كذب دعوى روايته لتلك الدواوين، أو على سوء نُسَخِه منها.
ومن هذا يظهر لك الفرق جليًّا بين ما يتطلّبه الجرح والتعديل في القرون الأربعة الأولى من اكتمال آلات الاجتهاد، وما يكفي فيه خلال القرون التالية، من العلم بظواهر لا تحتاج إلى حفظٍ، بل لا تحتاج أكثر من مُشاهدة دواعي القبول أو الردّ بأمّ العين، أو نقلها عمن شاهدها.
وانظر الدراسة الماتعة المفيدة في بيان منهج توثيق المرويّات بعد اكتمال التدوين، في كتاب: عناية المحدّثين بتوثيق المرويات للدكتور أحمد محمد نور سيف، وانظر خاصّةً (ص٨ - ١٠) .

<<  <  ج: ص:  >  >>