بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[الشبهة الرابعة]
كل المخلوقات في السموات والأرض طائعة وقاتنة لله تعالى (٣٠: ٢٦) . ومع ذلك نجد حالات كثيرة من عدم الطاعة من جانب البشر (مثلاً: ٦٩: ١٠) .
الجواب:
كل المخلوقات، في السموات والأرض، طائعة وقانتة لله، سبحانه وتعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} (الروم: ٢٦) .
فهم قانتون لله، أي خاضعون ومطيعون لإرادته، سبحانه وتعالى. .
ومع ذلك يشهد الواقع، وتحكي الآيات القرآنية الكثير عن حالات العصيان وعدم الطاعة من جانب البشر. . وذلك من مثل قوله سبحانه: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} (الحاقة: ٩-١٠) .
ففي هذه الآية وحدها إشارات إلى عصيان فرعون. . وعصيان من سبقه من المؤتفكات - أي قرى قوم لوط - الذين أخذهم الله أخذة رابية، أي زائدة في الشدة على غيرها. .
بل إن تاريخ الإنسانية هو صراع بين أهل الطاعة وأهل العصيان. . حتى أن المأثورالنبوي الشريف قد تحدث عن أن كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون. .
فكيف يتسق شيوع العصيان في البشر، مع الآية القرآنية التي تحدثت عن أن كل من في السموات والأرض قانتون - أي خاضعون ومطيعون - لله سبحانه وتعالى؟
إن مفتاح الإجابة عن هذا التساؤل، هو فهم أنواع الإرادة الإلهية والقضاء الإلهي. . فالله سبحانه لا يريد العصيان، ولا يقضي بالشر. . لكن إرادته وقضاءه نوعان:
١ - إرادة وقضاء تكويني وحتمي للمخلوقات غير المخيرة. . وذلك مثل القضاء الذي تتحدث عنه الآية: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (١١) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (فصلت: ١٢) . . ومن مثل: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (البقرة: ١١٧) .
ففي هذا اللون من الأمر الإلهي والقضاء الرباني تكون المخلوقات غير المختارة مجبولة على القنوت والطاعة والخضوع لله سبحانه وتعالى. .
٢ - إرادة وقضاء معهما تخيير. . وذلك خاص بالإنسان المخير. . المكلف. . المسئول. . والذي له - بسبب هذا التخيير والحرية - حساب وجزاء.
وإلى مثل هذا تشير الآيات: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (الإسراء: ٢٣-٢٤) .
فنحن هنا أمام قضاء إلهي، شاء الله سبحانه وتعالى أن يترك للإنسان المخير إزاءه حرية الطاعة والعصيان، ليتميز الخبيث من الطيب، وليكون الجزاء وفق العمل والإرادة والاختيار. . فالإنسان المخير، الذي هداه الله النجدين، له قدرات واستطاعات الطاعة والعصيان. . ولذلك، كان من جنس الإنسان المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، ومن يبتغي وجه الله، ومن يبتغي غير دين الله. . بينما المخلوقات غير المختارة مجبولة على الطاعة والخضوع {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (آل عمران: ٨٣) ، {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ} (الرعد: ١٥) ، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: ١١) .
ففي مخلوقات الله مخلوقات مجبولة على الطاعة والخضوع. . وفي هذه المخلوقات، منهم من يطيع ومنهم من يختار العصيان، فيبتغي غير دين الله! .
السابق التالي