وإذا كان القرآن يشير في بعض آياته إلى أنّ المعرفة بالله كامنةٌ في الفطرة الأصلية، فطرة الروح الإنسانية، على حالتها الأولى، قبل أن تظهر في هذا العالم، وتستخدم فيه، هذا المركّب البديع، الذي هو البَدَن، ومالَهُ من حواسّ ظاهرة وباطنة، ومن جوارح، فإنه يُوجِّهُ عقل الإنسان إلى الطريق السويّ، لمعرفة الله، بأن نبّهَهُ إلى النظر في العالم وفي نفسه معاً: ?وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ / وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ? (الآية ٢٠ ـ ٢١، الذاريات) . ?إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ / وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ? (الآية ٣ ـ ٤، الجاثية) . ?أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ? (الآية ١٠، إبراهيم) . ?سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ? (الآية ٥٣، فصّلت) . فالقرآن يجعل نقطة البداية لمعرفة الله، ما يشاهده الإنسان في الكون وفي نفسه.
وتدلّ آيات كثيرة في القرآن، على أن المقصود مما يشاهده الإنسان في نفسه، هو نشأته وتقلُّبه في مراحل الخِلقة، وبنيتهُ، وأعضاؤه، وجوارحهُ، إلى جانب ما يدركُه الإنسان في حياته الباطنة: حياة الفكر، وحياة النفس. معنى هذا أن القرآن لا يجعل أساس النظر العقلي، المؤدِّي إلى معرفة الله، مفهوماتٍ مجرّدة، ولا معانِيَ ذهنية، ولا قضايا نظرية جَدَليّة، وهو حتى عندما يريد أن يجادل، لا يجعل موضوع الجدال، خارجاً، أو بعيداً عن نطاق المُشَاهَد الذي يدركه الإنسان مباشرة.