(المسألة السادسة): في اختلاف أهل العلم في قبول توبة من كذب في حديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم-:
(اعلم): أن من كذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمدا في حديث واحد فَسَقَ، ورُدّت رواياته كلها، وبطل الاحتجاج بجميعها، فلو تاب، وحسنت توبته، فقد قال جماعة من العلماء منهم: أحمد بن حنبل، وأبو بكر الحميدي، شيخ البخاري، وصاحب الشافعي، وأبو بكر الصيرفي من فقهاء الشافعية، وأصحاب الوجوه منهم، ومتقدميهم في الأصول والفروع: لا تؤثر توبته في ذلك، ولا تُقبل روايته أبدا، بل يُحتم جرحه دائما، وأطلق الصيرفي، وقال: كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه لم نعد لقبوله بتوبة تظهر، ومن ضعفنا نقله لم نجعله قويا بعد ذلك، قال: وذلك مما افترقت فيه الرواية والشهادة. ولم أر دليلا لمذهب هؤلاء، ويجوز أن يوجه بأن ذلك جعل تغليظا، وزجرا بليغا عن الكذب عليه -صلى الله عليه وسلم-؛ لعظم مفسدته، فإنه يصير شرعا مستمرا إلى يوم القيامة، بخلاف الكذب على غيره والشهادة، فإن مفسدتهما قاصرة، ليست عامة.
قال النوويّ رحمه الله تعالى: وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة ضعيف، مخالف للقواعد الشرعية، والمختار القطع بصحته توبته في هذا، وقبول رواياته بعدها، إذا صحت توبته بشروطها المعروفة، وهي: الإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها، والعزم على أن لا يعود إليها، فهذا هو الجاري على قواعد الشرع، وقد أجمعوا على صحة رواية من كان كافرا فأسلم، وأكثر الصحابة كانوا بهذه الصفة، وأجمعوا على قبول شهادته، ولا فرق بين الشهادة والرواية في هذا. انتهى كلام النوويّ رحمه الله تعالى في شرحه لهذا الكتاب.
وقال في "التدريب شرح التقريب" ١/ ٣٣٠: تقبل رواية التائب من الفسق، ومن الكذب في غير الحديث النبوي، كشهادته؛ للآيات، والأحاديث الدالة على ذلك، إلا الكذب في أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلا تقبل رواية التائب منه أبدا، وإن حسنت