قال الجامع عفا الله تعالى عنه: غرض المصنّف بعقد هذا الباب بيان أن الإيمان قول وفعلٌ، وأن له شعبًا كثيرة، وأنه يتفاوت، وأنه يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، كما يتبيّن ذلك فيما يورده من الأحاديث الآتية، إن شاء الله تعالى.
ومناسبة الباب للباب السابق كون الإيمان يبعث صاحبه على التخلّي عن الهوى الموجب لاتّباع الرأي والقياس الباطل، والتحلّي بتحكيم شرع من آمن به؛ لأنّ من أعظم شُعَبِه الحياءَ، فإذا كان العبد يستحيي من الله سبحانه وتعالى لا يتجاسر بأن يتقدّم بين يدي الله سبحانه وتعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بشيء من الأحكام؛ لأن ذلك ينافي مقضى إيمانه، بل يجعل الكتاب والسنة حاكمين عليه، قال الله عز وجل:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء: ٦٥]، وقال عز وجل:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} الآية [الأحزاب: ٣٦].
وبالجملة فالإيمان هو الذي يَحْمِل العبد على التخلّي عن الرذائل، والتحلّي بالفضائل، اللهم ارزقنا إيمانًا كاملًا، واملأ به قلوبنا، آمين.
وأحسن ما نُقل عن أهل اللغة في تفسير "الإيمان" ما ذكره ابن منظور، فقال: وحَدّ الزَّجّاج الإيمانَ، فقال: الإيمان: إظهار الخضوع، والقبول للشريعة، ولِمَا أَتَى به النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، واعتقاده، وتصديقه بالقلب، فمن كان على هذه الصفة، فهو مؤمنٌ مسلمٌ، غير مُرتاب، ولا شاكّ، وهو الذي يرى أن أداء الفرائض واجب عليه، لا يدخله في ذلك ريبٌ، وفي التنزيل العزيز:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا}[يوسف: ١٧]: أي بمصدّق، فالإيمان: التصديق. وقال في "التهذيب": وأما الإيمان، فهو مصدر آمن يؤمن إيمانًا، فهو مؤمنٌ، واتّفق أهل العلم من اللغويين، وغيرهم أن الإيمان: معناه التصديق، قال الله تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} الآية [الحجرات: ١٤]، قال: وهذا موضع يحتاج إلى تفهيمه، وأين ينفصل المؤمن من المسلم،