بالرأي، وجُلُّ ما يوجد له من ذلك ما كان منه اتّباعًا لأهل بلده، كإبراهيم النخعيّ، وأصحاب ابن مسعود -رضي الله عنه-، إلا أنه أغرق وأفرط في تنزيل النوازل هو وأصحابه، والجواب فيها برأيهم، واستحسانهم، فيأتي منهم في ذلك خلاف كثير للسلف وشنع هي عند مخالفيهم بدع، وما أعلم أحدًا من أهل العلم إلا وله تأويل في آية، أو مذهب في سنّة، رَدّ من أجل ذلك المذهب سنة أخرى بتأويل سائغ، أو ادّعاء نسخ، إلا أن لأبي حنيفة من ذلك كثيرًا، وهو يوجد لغيره قليل.
قال: ونَقَموا أيضًا على أبي حنيفة الإرجاء، ومن أهل العلم من يُنسَب إلى الإرجاء كثير، لم يُعنَ أحدٌ بنقل قبيح ما قيل فيه كما عُنُوا بذلك في أبي حنيفة لإمامته، وكان أيضًا مع هذا يُحسَد، ويُنسَب إليه ما ليس فيه، ويُختلقُ عليه ما لا يليق به، وقد أثنى عليه جماعة من العلماء وفضلوه، ولعلّنا إن وجدنا نشطةً نجمع من فضائله، وفضائل مالك، والشافعيّ، والثوريّ، والأوزاعيّ رحمهم الله كتابًا أمّلنا جمعه قديمًا في أخبار أئمة الأمصار -إن شاء الله تعالى- انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله، وهو كلام نفيس.
لكن نقول عن العلماء الذين تكلّموا في هذا الإمام: إنما حملهم على ذلك نصرة السنة المطهّرة، والذبّ عنها، والدفاع عن حريمها، كما قال ابن عبّاس رضي الله عنهما لنوف البكاليّ:"كذب عدوّ الله"، غضبًا لمخالفته ما ثبت في السنّة، وذلك لئلا يتلاعب بها أهل الأهواء بآراهم الفاسدة، وأهوائهم الكاسدة، فنشأ من شدّة غضبهم ما سمعته في حقّ هذا الإمام فنراهم كلهم على خير وهُدى بحسب نيتهم الصالحة، والقيام بما وجب عليهم نحو السنّة المطهّرة، فجزى الله تعالى الجميع خير الجزاء، فنحن نحبّهم كلهم، ونرجو من الله سبحانه وتعالى أن يحشرنا معهم، ويُسكننا الفردوس الأعلى برحمته، إنه بعباده عليم، وبالمؤمنين رءوف رحيم، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.