بوَصِيّة، و"العَهْد": الوصيّةُ، يقال: عَهِدَ إليه يَعْهَدُ من باب تَعِبَ: إذا أوصاه. وفي الرواية التالية:"فماذا تعهد إلينا". وفي رواية لأحمد بلفظ:"فأوصنا".
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: قولهم: "فأوصنا". يَعْنُون وصيةً جامعةً كافيةً، فإنهم لمّا فَهِمُوا أنه مُوَدِّع استوصوه وصيةً ينفعهم التمسك بها بعده، ويكون فيها كفايةٌ لمن تمسك بها، وسعادة له في الدنيا والآخرة.
(فَقَالَ:"عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللَّه) أي الزموا تقوى الله تعالى، وهذا من جوامع كلمه -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن التقوى امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، فهي كافلة سعادة الدنيا والآخرة لمن تمسّك بها، وهي وصيّة الله للأولين والآخرين بقوله:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}[النساء: ١٣١](وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ) أي
وعليكم بقبول قول من ولّاه الله عز وجل عليكم، وطاعته بما أمركم به عادلًا كان أو جائرًا ما لم يأمر بمعصية؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا) خبرٌ لـ "كان" المحذوفة مع اسمها، أي وإن كان المطاع عبدًا حبشيًّا، وهذا الحذف كثيرٌ بعد "إن"، كما أشار إليه ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:
وفي رواية الترمذيّ: "وإن عبدٌ حبشيّ"، وعليه فيكون الحذف لـ"كان" مع خبرها، أي وإن كان عبد حبشيّ مُوَلًّى عليكم، وهذا الحذف أقلّ مما قبله. وفي رواية لأحمد والدارميّ: "وإن كان عبدًا حبشيّا".
والمعنى: وإن صار أدنى الخلق أميرًا عليكم، فلا تستنكفوا عن طاعته، أو لو استولى عليكم عبد حبشيّ فأطيعوه مخافة إثارة الفتن.
قال الخطّابي رحمه الله تعالى: يريد به طاعة من ولّاه الإمام عليكم، وإن كان عبدًا حبشيّا، ولم يُرد بذلك أن يكون الإمام عبدًا حبشيّا، وقد ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الأئمة من قريش"، وقد يُضرب المثلُ في الشيء بما لا يكاد يصحّ في الوجود، كقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من بنى لله مسجدًا، ولو كمَفْحَص قطاة بنى الله له بيتًا في الجنّة"، وقدرُ مَفْحَص القطاة لا