للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فصل في قضاء القاضي بعلم نفسه

لا خلاف أن على القاضي أن يمتنع عن القضاء بعلم نفسه؛ مثل: أن ادعى رجل على رجل آخر حقاً، وأقام عليه بينة؛ والقاضي يعلم أنه قد أبرأه، أو ادعى أنه قتل أباه وقت كذا؛ وقد رآه القاضي حياً بعده، أو ادعى نكاح امرأة، وقد سمعه القاضي طلقها- لا يجوز أن يقضي به؛ وإن أقام عليه شهوداً. وهل يجوز للقاضي أن يقضي بعلم نفسه؛ مثل: أن ادعى عليه ألفاً؛ وقد رآه القاضي أقرضه، أو سمع المدعى عليه أقر به؟ ففيه قولان:

أصحهما- وبه قال أبو يوسف ومحمد-: يجوز أن يقضي بعلمه؛ وهو اختيار المزني؛ لأنه لما جاز أن يحكم بشهادة الشهود؛ وهو من قولهم على ظن فلان- يجوز بما رأه وسمعه؛ وهو منه على علم أولى.

قال الشافعي رحمه الله في كتاب "الرسالة": أقضي بعلمي" وهو أقوى من شاهدين أو بشاهدين أو بشاهد وامرأتين، وهو أقوى من شاهد ويمين، وبشاهد ويمين؛ وهو أقوى من النكول ورد اليمين.

والقول الثاني: لا يقضي بعلمه؛ وهو قول ابن أبي ليلى؛ لأن انتفاء التهمة شرط في القضاء؛ ولم يوجد، وكذلك لا يقضي لولده؛ لتمكن التهمة منه.

وإن قلنا: لا يقضي بعلمه، هل يجعل علمه كشاهد واحد؛ حتى إذا أقام شاهداً واحداً، يجب الحكم به؟ فيه وجهان:

أحدهما: بلى؛ كما لو ادعى عند قاض آخر؛ فشهد هذا القاضي مع ذلك الشاهد- يجب الحكم به.

والثاني: لا؛ لأجل التهمة، وهذا في المال.

أما في العقوبات؛ نظر: إن كانت العقوبة من حقوق العباد؛ كالقصاص، وحد القذف- هل يحكم فيه بعلم نفسه؟ يرتب على المال: إن قلنا هناك: لا يقضي فهاهنا أولى، وإلا فقولان. والفرق: أن العقوبات تندرئ بالشبهة؛ فيحتاط لدرئها.

وإن كانت العقوبة من حقوق الله- تعالى- كحد الزنا، والشرب، وقطع السرق- يرتب على حقوق العباد: إن قلنا هناك: لا يقضي بعلم نفسه فهاهنا أولى، وإلا فقولان. والفرق: أن مبنى حقوق الله تعالى على المساهلة والمسامحة، ولا فرق على القولين؛ بين أن يحصل

<<  <  ج: ص:  >  >>