للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وَلَا يَتَكَلَّمُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا المُعَارِضِ بِسُؤَالِ بِشْرٍ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ قَدِيمًا فِي شَبَابِهِ، وَقَدْ عَرَفَ مَذْهَبَ بِشْرٍ أَنَّهُ اضْطَمَرَ هَذَا الرَّأْيَ فِي أَوَّلِ دَهْرِهِ وَلَيْسَ بِرَأْيٍ اسْتَحْدَثَهُ حَدِيثًا.

وَرَوَى أَبُو ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ اللهُ: إِنَّ رَحْمَتِي كَلَامٌ، وَعَذَابِي كَلَامٌ، وَغَضَبِي كَلَامٌ، إِنَّمَا قَوْلِي لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُون» (١).

ادَّعَى المُعَارِضُ أَيْضًا فِي قَولِ الله تَعَالَى لِعِيسَى بن مَرْيَمَ: «رُوحُ الله وَكلِمَتُهُ» فَقَالَ: يَقُولُ أَهْلُ الجُرْأَةِ فِي مَعْنَى «كَلِمَتُهُ»: أَيْ بِكَلِمَتِهِ، وَإِنْ سُئِلوا عَنِ المَخْرَجِ مِنْهُ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَتَأَوَّلُوا عَلَى الله بِرَأْيِهِمْ.

فَيُقَالُ لِهَذَا المُعَارِضِ: أوَ يَحْتَاجُ فِي هَذَا إِلَى تَفْسِيرٍ وَمَخْرَجٍ؟ قَد عَقِلَ

تَفْسِيرَهُ عَامَّةُ مَنْ آمَنَ بِالله: أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ: «كُنْ فَيَكُونُ»، وَمَتَى لَا يَقُولُ لَهُ: «كُنْ»؛ لَا يَكُونُ، فَإِذَا قَالَ: «كُنْ»؛ كَانَ، فَهَذَا المَخْرَجُ مِنْ أَنَّهُ كَانَ بِإِرَادَتِهِ وَبِكَلِمَتِهِ، لَا أَنَّهُ نَفْسُ الكَلِمَةِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْهُ، وَلَكِنْ بِالكَلِمَةِ كَانَ، فَالكَلِمَةُ مِنَ الله «كُنْ» غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، وَالكَائِنُ بِهَا مَخْلُوقٌ.

وَقَوْلُ الله فِي عِيسَى «رُوحُ الله، وَكَلِمَتُهُ» فَبَيْنَ الرُّوحِ وَالكَلِمَةِ فَرْقٌ فِي المَعْنَى؛ لِأَنَّ الرُّوحَ الَّذِي نَفَخَ فِيهَا مَخْلُوقٌ امْتَزَجَ بِخَلْقِهِ، وَالكَلِمَةُ مِنَ الله غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لَمْ تَمْتَزِجْ بِعِيسَى، وَلَكِنْ كَانَ بِهَا، وَإِنْ كَرِهَ لِأَنَّهَا مِنَ الله أَمْرٌ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قُلْنَا، لَا عَلَى مَا ادَّعَيْتَ عَلَيْنَا مِنَ الكَذِبِ وَالأَبَاطِيلِ.


(١) أخرجه أحمد (٢١٣٦٧)، وهناد في الزهد (٩٠٥)، والطبراني في الدعاء (١٥)، وغيرهم من حديث ليث بن أبي سليم، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي ذر، به مطولا، بلفظ «عطائي كلام، وعذابي كلام».وهذا إسناد ضعيف. وأصل الحديث في صحيح مسلم -حديث إني حرمت الظلم على نفسي- من حديث أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر، ولكن دون ذكر موطن الشاهد.

<<  <   >  >>