فالهجرة أحيانًا يكون كل الغرض منها، الفرار بالدين والنجاة بأهله المؤمنين، وأحيانًا نراها في دعوة الرسل يُرتب لها ويحدد لها الوقت، وتتجاوز غرضها السابق إلى التهيئة لإعداد مستقر لجماعة المؤمنين، وإعدادهم ومزاولتهم لشعائر الدين وبالتالي ظهورهم ونصرهم والتمكين لهم في الأرض، وكلا النوعين من الهجرة كان ماثلًا أتم المثول، واضحًا كل الوضوح في دعوة خاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم -، فالهجرة إلى الحبشة بأمر منه إنما كانت من النوع الأول وهو الفرار بالدين والبعد عن فتنة وإيذاء الكافرين فقط، ولم تتجاوز هذا الغرض إلى غيره في أصل الأمر.
قال ابن إسحاق:"فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم:«لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه» فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفرارًا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام"(١) .