للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

على تصرف الأحوال في الجملة. وعلم مع ذلك أن التذكير مما أمر الله تعالى جدُّه في كتابه، والله لا يأمر بالهزل ولا بما يهزأ به، ولا بما يضع امتثاله من تمثيله، ويحطُّ استعماله من قدر مستعمله، قال الله عز وجل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: ٥٥]، وقال: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور: ٢٩]. فيسمي الله تعالى جدُّه نبيَّه صلى الله عليه وسلم مذكرًا وسمى تبليغه وتعليمه تذكيرًا، وأمْرَه به إرشادًا وتبصيرًا. فكيف يعرض لأسباب الضعة ما جعله الله تعالى من أسباب الرفعة؟ وكيف يجري في عداد أهل النقص طائفة قائدها نبيها وإمامها رسولها؟ أو كيف يخرج علم التذكير من جملة الفقه وهو لا يقع إلا من أولي الفطنة والتمييز والخبرة بما يوجبه الحال، ويرجى أن ينجع فيمن يذكره المقدار الذي لا يستكثر فيمل منه أو يتضجر، وبالوقت الذي يكون التذكير فيه أنفع، ومن قلوب السامعين أوقع، وينبوع الذكر الذي يكون إلى القلوب أسرع، وفي القلوب أنجع. وإذا تُؤُمِّلَ هذا المقام وما جرى فيه من الكلام، وُجد أشبهَ المقامات بالقضاء بين المتخاصمين والحكم بين المتنازعين التذكيرُ؛ لأن المذكر يفصل بين دواعي النفس، فيميز المردية منها عن المنجية، ويخلص الموبقة من المعتقة، ويرجح دواعي العقل على دواعي الهوى والطبع، ويلزم السامعين أن يقفوا عند الحدود المحدودة لهم ولا يتعدوها، ويلزموا المثل الممثلة لهم ولا يتخطوها. كما أن القاضي يفصل بين المحق في دعواه والمبطل الراكب لهواه، ويميز البينات عن دواحض الشبهات، ويرجح من

<<  <   >  >>