للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والعلم وإن كان لا يعمل للدين ولكنه في أشد الحاجة إليه إذا اعتبرنا هذا

العلم ذريعة من ذرائع الإنسانية في نظامها ومصالحها، فهو يسخر لها الطبيعة

ويؤتيها المنافع والمضار، غير أنه لن يستطيع أن يحمي المنفعة من تعادي الناس

وتناحرهم عليها، ولن يستطيع أن يمسك المضرة حتى لا يقع بها التعادي

والتناحر؛ وهنا موضع الدين. فهو وحده القائم على النفس الإنسانية لحماية

المنفعة وإمساك المضرة، ولولا أن الإنسان حيوان تقي، وأن نظام اجتماعه نظام دينه، وفي قانون جسمه قانون قلبه، لأكل الناس بعضهم بعضاً.

وقد يقال إن الحكومات والقوانين تغني عن الدين في ذلك أو تغني غناءه، وهذا وهم جربته الإنسانية لعصرنا في حكومة البلشفيك فأسقطت الدين وأقامت القانون؛ فلم يكن من ذلك إلا سقوط الإنسانية نفسها، وصارت القوانين لحماية الرذائل بعد أن كانت للحماية منها.

وما فشا الإلحاد في أمة من الأمم إلا مسخ من نفوس

أهلها - فنزل بها حالة بعد حالة حتى لتعرفها في عاقبة - الأمر نفوس حمير وبغال وسباع وقردة ونحوها لا نفوساً إنسانية.

فعلماء الأديان مادة ضرورية في تركيب الاجتماع الإنساني، إن خلا

مكانها فيه لم يسدَّه شيء، والدين الإسلامي خاصة بما فيه من الأعمال والآداب التي لا تقوم الإنسانية على أفضل ولا أثبتَ ولا أقوى منها - كما بيناه في كتابنا "إعجاز القرآن" - يجعل لعلمائه من الشأن ما لا يستطيع إنكاره إلا أحمقُ مدخول العقل، أو مفسد مدخول النية.

قد يأتي لهذه الدنيا رجل ذكي فيلسوف يرى ما رأى الفيلسوف "روسو"

مثلاً من أن رجال الدين قوم يعيشون في غير عصرهم، أو في عصر غيرهم.

ولكن مثل هذا الذكي الذي تقبله أوروبا ينقلب ذكاؤه بلادة أشد بلادة إذا هو ظهر في العالم الإسلامي، فلن يستطيع أن يثبت أن علماء هذا الدين متطفلون على الحياة، إذ الإسلام يقوم على أصول خمسة منها أربعة عملية اجتماعية، ونحن متى أسقطنا علم الحلال والحرام ووسائله الكثيرة من علوم الأثر التفسير والأصول والعربية وما يداخلها، لم يبق من الإسلام إلا ما يريد طه وأمثاله، ولم يعد الإسلام إلا كلمة يسعها اللسان كما يسع نقيضها.

فإذا ذهب أربعة أخماس الدين لم يبق لعلماء الدين موضع؛ ولعل هذا هو الذي شعر به طه فنطق به ففضح فيه نفسه، إذ هو لا يقيم من أعمال الإسلام شيئاً، فظهرت له فروق كثيرة بينه وبين شيخ الأزهر وعلماء الدين ورأى علومهم لغواً وعبثاً وغفلة من غفلات الأمة، وكل ذلك مما تتكلم به نفس الرجل عن الرجل وهو لا يدري، كأنه

<<  <   >  >>