للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

العلم، وكأن في هذا الشيخ طبعاً غير طبع الإنسان، ففضله بكثرة عيوبه لا بكثرة محاسنه. كم يوماً من أيام العرب تعرف أيها الشيخ؟

وفي كم كتاب هي؟ وكم ديواناً وضع فيها من الشعر؟ وما هي؟

وأين هي؟ وما الذي وقفت عليه منها

حتى تقطع على كل ذلك بأنه من عمل القصاص وأنه زيادة وتوسعة في

الأساطير؟

إن أيام العرب هي حروبهم ومغازيهم، ولو لم يصح لهم شيء من كل ما

رُوي عنهم لصحت أخبار هذه الأيام وحدها، ففيها نعيمهم ومصائبهم، ومنها حياتهم وموتهم، ولها محامدهم ومثالبهم، وهي عندهم مادة التاريخ السياسي، ولذا كان ذكرها في ألسنة شعرائهم، إذ كان شاعر القبيلة كأنه وزير الخارجية فيها، على أنه لم توضع قصيدة واحدة - لا صدقاً ولا كذباً - في وصف يوم من هذه الأيام وقصة ما جرى فيه، وإنما كانوا يذكرون أيامهم في الفخر والمهاجاة فيومئون إليها ويشيرون إلى مواضع الذم أو المدح لا يَعدُون ذلك، وبهذا استطاع الرواة والعلماء أن يستخرجوا أسماء هذه الأيام ويستشهدوا على بعض ما كان فيها من شعر النقائض، وهو ما يكون بين شعراء القبائل في الهجاء والفخر، يقول أحدهم فينقض عليه الآخر، وأنت تراها في شعر جرير والفرزدق والأخطل والطرمَّاح وغيرهم من الإسلاميين كما تراها في شعر الجاهلية، مما يثبت أنها تاريخ يتوارثونه بينهم، وماذا تُورث القبيلةُ أبناءها إلا أنسابها وأخبارَ سيوفها ومكارم أجوادها وأقوال شعرائها؛ وقد قال الأول:

ولو أن قومي أنطقتني رماحُهم. . . نطقتُ ولكنَّ الرماح أجرَّتَ

فهذه الرماح هي الألسنة التاريخية التي تكتب بالدم ذلك الشعر الأحمر.

وإذا لم يكن للقبيلة حروب ووقائع لم يكن لها بأس ولا فيها نجدة ولا عندها

منعة وسقطت بذلك أنسابها وذهبت مكارمها وقل شعرُها إذ كانت هذه الثلاث هي مادةَ الشعر المأثور فيهم الدائر على أفواههم، وكانوا قوماً كان حياتهم ثمر من زرع القتل.

قال ابن سلام: "وإنما كان يكثر الشعر بالحروب التي تكون بين الأحياء.

نحو حرب الأوس والخزرج، أو قوم يغيرون ويغار عليهم، ولذلك قلل شعرَ قريش أنه لم يكن بينهم ثائرة ولم يحاربوا، وذلك الذي قلل شعر عمان والطائف".

مع كل هذا فقد سقط أكثر الشعر وأكثر الخبر، ولم تكن الأيام من علم

القصاص، بل مَحصها العلماء وتناقلوها وكانت تقرأ عليهم وكانوا يميزون بينها

<<  <   >  >>