النِّقاع: جمع نَقع، وهو القاع من القيعان. وزعموا أن معنى من معنى الباء كأنه قال: وأنزلنا بالمعصرات ماء ثجّاجاً. وقال غيرهم: بل المعصرات الغيوم أنفسها، وذهب إلى معنى البعيث.
ولا يحتمل قوله غير السحاب لقوله: الدّوالح فتكون المعصرات التي أمكنت الرياح من اعتصارها واستنزال قطرها، يقال: أمضغ النخل وآكل وأطعم وأفرك الزَّرعُ إذا أمكن ذلك فيه.
وقد ألم أبو حنيفة بالصواب، ثم حاد عنه، المعصرات: السحابات بعينها كما قال، ولكنها إنما سميت مُعصِرات بالعَصَر، والعُصرة وهما: الملجأ، وقال أبو زبيد:
فارسٌ يستغيث غير مُغاثٍ ... ولقد كان عُصرةَ المنجودِ
أي ملجأ المكروب، وتقول: أعصرني فلان إذا ألجأك إليه، واعتصرت أنا اعتصاراً، قال عدي بن زيد:
لو بغير الماء حلقي شَرِقٌ ... كنت كالغَصّان بالماء اعتصاري
فمعنى المعصرات: المُنجيات من البلاء، المُعصمات من الجَدْب بالخِصب لا ما قال أبو حنيفة، ولا ما قال من قال: إنها الرياح ذوات الأعاصير فلا تَلْتَفتنَّ إلى القولين معاً.
٢١ - وفسر أبو حنيفة قول صخر الغيّ:
أسالَ من الليل أشجانَهُ ... كأنَّ ظواهره كنَّ جُوفاً
بأن قال: يعني أنَّ الماء صادف أرضاً خوّارة استوعبته فكأنّها جوفاء غير مصمتة.
وهذا التفسير بخلاف البيت، لأن في البيت أسال، وإذا استوعبت الأرض الماء فأيَّ شيء يسيل، وإنما أراد صخر: أن السيل لشدته يشق خدود الأرض فسال في أخاديدها فصارت ظواهرها كالأودية الجوف. ومثله قول نابغة بني جعدة:
يَشقُّ حَديدَ الأرضِ من حدِّ سَيلهِ ... أخاديدَ حتى يتركَ القَفَّ واديا
٢٢ - وفال في قول أبي وَجْزة:
مُطِّبقةُ المجرى لذيذٌ نسيمُها ... رُخاءٌ أَبتْ أعقابُها أنْ تَصرّبا
والمُطِّبقة: المُحقِّقة.
وإنما أخذ أبو حنيفة هذا من قولهم: طَبَّق المَفصِل. وليس كذلك، وإنما هذا مأخوذ من قول امرئ القيس:
ديمةٌ هَطْلاء فيها وطفٌ ... طَبَقُ الأرض تحرّى وتدُرْ
أي مُغطّية للأرض كلها، وغطاء كل شيء طبق له، ومنه قيل لغطاء القدر طبق، ومنه قوله تعالى: (سَبْعَ سمواتٍ طِباقاً) أي طابقت كل واحدة صاحبتها مطابقة، وطباقاً أي هذه غطاء لهذه لم تحجز عنها، وهذه تحتها لم تفصل عنها. ومن هذا قيل للمتفقين على الأمر متطابقاً على كذا وكذا سبحانه بالمصدر، ولم يُجمع على لفظ طَبَق لأن جمع طبق أطباق، قال الشمّاخ:
إذا دعتْ غَوْثَها ضرّاتها فزِعتْ ... أطباقُ نِيٍّ، على الأثباجِ مَنْضودِ
والمُغطّي للشيء طَبَقٌ له وطِباق له، ولا معنى للمُحقّقه في بيت أبي وجزة، ولا يجوز غير ما قلناه فاعلم.
٢٣ - وقال أبو حنيفة، قال أبو عمرو: الشعر الذي في العنق يدعي الغفير والغفارة والغَفْر، واستشهد به على قوله في صفة النَّبت، وهو ما دام صغاراً أغفر، وقد أغفرت الأرض. ذكر ذلك أبو عمرو وقال: وهو مأخوذ من الغفر، وهو الشعر الصِّغار الذي مثل الزَّغب، ويقال: رجل غَفِرُ القفا، وامرأة غَفِرة الوجه إذا كان في وجهها غَفْرٌ.
وقد صدق فيما حكاه عن أبي عمرو. والمعروف: الغَفَر - بالتحريك - ولا أعرف الغَفْر إلاّ عن أبي عمرو، وقد يمكن أن يقال: غَفرٌ وغَفَر - إلاّ أن الفتح أشهر - ولم يذكراه، وقد قال الراجز:
قد علمت خَود بساقيها الغَفَرْ ... لتروينْ أو لتبيدنَّ الشَّجَرْ
أو لأروحنْ أُصُلاً لا أتّزرْ
وقد روى هذا واحد من الرواة: بساقيها القُفْر - بالقاف - وقد غلطوا، والرواية بالغين، وممن رواه بالقاف ابن دريد والوجه ما أنبأتك.
٢٤ - وقال أبو حنيفة: قال أبو النجم:
نَبْتُها بالرَّوض أعشابَ الخَضرْ
وإنما الرّجز للعجّاج.
٢٥ - وقال أبو حنيفة، قال أبو زيد: الرَّف: الأكل، رفت الإبل تُرفُّ رفّاً، ثم قال أبو حنيفة: حفظي رفَّ يَرُفُّ رفيفاً في اللون، وفي الأكل والمصّ: رفّ يرَفُّ رفّاً - بفتح راء يرفّ - وهذا أيضاً مما قدمنا من ردّ بعضهم على بعض إلاّ أن هذا من أقبحه، لأنه خلط بصحيح ردّه سقيماً وإنما يقال: رفَّ يرِف كما قال: إذا بَرَق لونه، يقال منه: رفَّ الثّغر يرِف رفّاً، وقال بشر بن أبي خازم: