حاد عن هذا المسلك، وبذلك أصبح آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر بما كرمته به الآية، ولأن الله شد ملكه ومكن سلطانه، لا يكتفي بالأمر بالمعروف والنهي على طريقة الوعاظ الذين لا يملكون إلا الكلمات يحركون بها اللسان، ثم ينفلتون تاركين الخيار لمن استمعوا إليهم طاعة أو معصية، ولكن الحاكم القائم بأمر الله يملك اللسان والسنان معا، ويعطي لكلٍّ من معينه حتى يلتقي النوعان معه على وجه، هو ثم وجه الله {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} ، فإن كان أمر الحاكمين والمحكومين على إيداع ما ذكرت الآية، فلن يكون هناؤهم وعزهم في الدينا فقط بسبب ما أطاعوا به الله، وإنما في العاقبة الكبرى لهم شيء آخر ما خطر على البال {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} أي في الدنيا {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي سيكون جزاء الآخرة أحسن من ذلك الذي استحسنوه في الدنيا، وإن كان الأمر على غير ما ذكرت الآية، فالعاقبة أيضا في انتظار وصولهم إليها، ولكن شتان، على صورة ما قال الشاعر:
{وَعَدَ اللَّهُ} ولو قلنا وعد غيره لما اطمأنت النفس على تنفيذ الوعج إلا إذا وقع وتم، لأن غيره قد يملك أسباب الوفاء وقد لا يملك، وقد يكون ساعة الوعد صادق النية أو عكس ذلك، وحتى لو كان صادقها ويملك أسباب الوفاء فقد يطرأ له ما لم يحتسبه فريغم على عدم الوفاء أو يتأخر زمنا ما حتى تتوفر له ظروف الوفاء، لكن لما نسمع هذه الجملة {وَعَدَ اللَّهُ} فيقفز إلى الذهن حالا أن الذي يملك أسباب الوفاء كاملة، هو الأقدر من كل ما عداه على أن يفي بما وعد، وقد سأل سبحانه متحديا {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} ثم وعد {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} ذلك لأن الإمكانات كلها هو آخذ بناصيتها، وبالتالي فلن يثنيه أحد عن إتمام الوعد والموعد، لأن كل من عداه مخلوق له يلازمه ضعف الخلقة العاجزة، المحتاجة إلى عون موجدها.
{الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فالوعد بالخير لا يعطى إلا لمن قدَّم له، وعكسه له الوعيد وليس الوعد، فأصحاب الوعد هم المذكورون بصفتهم الموضحة في الآية - آمنوا وعملوا الصالحات - ذلك لأن الكثير يدعي الإيمان، ولكن الدورة الإيمانية في القلب أضعف من أن تحرك آلات الجسم بالعمل الصالح، ومن هنا فحظه في وعد الله بعيد المنال، أما إذا كانت قوة الدفع في القلب تجعل الدورة دفاقة إلى جميع البدن، فستجعله ينحني راكعان ويمد يده مزكيا، ويلجم نفسه صائما، ويجعل من الحلال والحرام جنديين يقظين يوقفانه عند حدود الله، ومن أصبح منتجا للخير يفيض منه على نفسه وغيره، فكان أن أردفت الآية ترفع شأنه لتجعله أهلا للظفر بالوعد الصدق وهو:
{لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ، والاستخلاف نوعان: نوع خاص، وهو الخلافة والإمارة فيصبح جليلا مهابا يرهب منه ويرغب فيه، ونوع عام وهو الاستخلاف في تولي الأعمال