وذلك بعد ما تبين الحق وعلموا أن الله وعدهم إحدى الطائفتين وأنه لم يبق لهم خيار، وأن عليهم أن يلقوا الطائفة التي قدر الله لهم لقاءها كائنة ما كانت. كانت العير أو كانت النفير. كانت الضعيفة التي لا شوك لها. أم كانت القوية ذات الشوكة والمنعة.
ولقد بقي المسلمون يودون أن لو كانت غير ذات الشوكة هي التي كتب الله عليهم لقاءها:{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}(الأنفال آية٧) ١.
هذا ما أراده المسلمون لأنفسهم يومذاك. أما ما أراده الله لهم فكان أمرا آخر {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}(الأنفال آية ٧،٨) .
أراد الله أن تكون ملحمة لا غنيمة وأن تكون موقعة بين الحق والباطل، ليحق الحق ويثبته، ويبطل الباطل ويزهقه. نعم أراد الله للفئة المؤمنة أن تصبح أمة وأن تصبح دولة، وأن يصبح لها سلطان وقوة، وأراد لها أن تقيس قوتها الحقيقية إلى قوة أعدائها فترجح ببعض قوتها على قوة أعدائها، وأن تعلم أن النصر ليس بالعدد، وليس بالمال والخيل والزاد، وليس بالعدة، وإنما هو بمقدار اتصالها بالقوة الكبرى التي لا تقف لها في الأرض قوة، وأن يكون هذا عن تجربة واقعية لا كلاماً واعتقادا، لتزود الفئة المؤمنة من هذه التجربة لواقعها كله.
بعد أن استشار النبي صلى الله عليه وسلم- أصحابه وعرف مقدار استعدادهم للقاء عدوهم. وجد أنه يجب على المسلمين- مهما كان الثمن- أن يسبقوا إلى آبار بدر فاخذوا في السير حتى وصلوا إِلى أعلى الوادي، وكان الوادي من الجدب بحيث لم يجدوا فيه قطرة ماء- ونَفِدَ ما كان مع المسلمين من الماء، فلما كان الغد بلغ بهم الظمأ حداً أليماً من العذاب، وانتهز الشيطان هذه الفرصة فوسوس إليهم:"انظروا إلى ما قادكم إِليه ذلكم الذي يزعم أنه رسول الله القادر.
هاهم أولاء الأعداء لا يحصيهم العَدُّ يحيطون بكم، ولا ينتظرون إلا أن تخور قواكم من شدة الظمأ، فليلتهموكم التهام الفريسة السهلة التي لا تجد من يحميها"، وأخذت وسوسة الشيطان تدور برءوسهم، ومن حسن الحظ أن تعودهم على الظمأ في صيام شهر رمضان قوّى من صبرهم، وفي الوقت الذي بلغت فيه الحرارة أشُدَها، وأرسلت الشمس شعاعها كشواظ من