ولكل فرد من الناس، ومنها ما كان خفيا لا يدرك بباديء النظر، كان الخفيّ منها لا يعرفه إلا ذوو التجربة وصفاء الفكر، والفراسة في جميع هذه الأحوال استدلال بالعلامة لا مدخل للإلهام فيها، بل إن أصحاب هذا القول استنكروا على الصوفية وغيرهم ممن يرون أن الفراسة نوع من الإلهام والكرامة.
وقد تمثل هذا الاتجاه في قول ابن العربي وبه أخذ القرطبي وثعلب، وهو المعنى الثاني عند ابن الأثير.
الثاني: إنّ الفراسة خاطر إلهامي يوقعه الله سبحانه وتعالى في قلوب الصالحين من عباده، فيعرفون به أحوال الناس، ويطّلعون على مالا يطّلع عليه العامة، وقد يدركون به أمراً لم يكن بعد.
وهذا يتمثل في تفسير الحكيم الترمذي, والمعنى الأول عند ابن الأثير وإليه أشار القرطبي بقوله: "إنها تكون لمن صفى قلبه من كدورات الأخلاق وتفريغ القلب من حشو الدنيا ... " الخ.
سواء كانت الفراسة استدلالاً بالعلامة أو خاطراً إلهامياً، فإن المتفق عليه في هذه التفسيرات هو أنّ سبيل الإدراك بالفراسة مستتر، وطريق المعرفة بها طريق خفي، وخطوات الاستنتاج فيها غير ظاهرة إلا لمن صفى فكره وكان حادّ الذكاء، أو كان من المؤمنين الصادقين الذين مدحتهم الآية والأحاديث وذكرت أنهم ينظرون بنور الله فتكون فراستهم صادقة ويطرد صوابها.
وجدير في هذا المقام، وحتى يتبيّن لنا معنى الفراسة، أن نذكر جانباً من الآثار التي أوردها الفقهاء تمثيلا للفراسة.
أولا: ما روي من فراسة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
أـ أنه قال: "يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى" ونزلت الآية {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} . (البقرة: ١٢٥) .
ب ـ أنه قال: "يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن. فنزلت آية الحجاب".
ج ـ أنه قال حين اجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة: " {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُن} . فنزلت كذلك". (التحريم: ٥) ١.
١ صحيح مسلم مع شرح النووي ج هـ اص ١٦٦, وفيه جاء قال عمر: "وافقت ربي في ثلاث مقام إبراهيم وفى=