بداية أنفاس الحياة الأولى، لكنها إرادة الله تعالى ومشيئته، فإذا أراد الله تعالى شيئا لا يمكن أن يمنعه شيء.
إن الصبي لم تبرح مخيلته طرفة عين صوت أبيه الذي لم يره، وكم كان يود أن يراه، وأن يكون عونا له على الأيام، وأن يحظى بحنان الأبوة، ودفئها.
كما أن صدره النقي البريء تتصارع فيه مواجيد الشوق منذ ثماني عشرة سنة، حيث لم ينس بل لا يزال ماثلا بإزائه في كل لحظة ذلك المنظر الرهيب المروع، وهو يودع حشاه وفلذة كبده أمه في حفرة بالأبواء، ومنذ تلك اللحظة وهو مكسور الخاطر، مهيض الجناح، مشغول بالهموم والأتراح، تزايله الأفراح ولا تقاربه تسرية أو سلوان، وهو في شرخ الصبا الذي يكون عادة محصنا ضد الهموم والأنكاد.
ولذلك ولهذه الأسباب كان كثيرا ما يخلد إلى نفسه، ويسرح بخواطره إلى تلك الأيام الخوالي الدارسة المنصرمة في حقبة منصرمة حيث كان في حضن أمه الدافىء بمكة، ثم إذا به يصير في ديوان الحياة وحيدا كريشة في مهب الريح.
ثم إن جده عبد المطلب كان شفوقا عليه، مهموما لأجله، إذ إنه كان يدرك تماما ما يجول بخاطر حفيده، ويحتوي كيانه ويستولي عليه من أنكاد تصارعه ويصارعها، وكم حاول الجد العجوز أن يمسح عن جبين حفيده لفحات الحزن والكابة، بنفحات الود والحدب والحنان، وكم حاول أن يمسح عبرة الأشجان من عينيه الواكفتين اللتين قد كحلهما السهاد والأرق.
لكن لم تقدر عاطفة الشيخ الطاعن على مدافعة هذه الهموم التي تدهم، والنوائب التي تنوب، والنوازل التي تنزل بعقوته، وتلم بحجزته، فقد كان الجرح غائرا، والألم مبرحا ممضا، لكن شبح المنية رفرف بجناحيه مرة أخرى على بيت