٢ في قرة العيون: وقد وقع الأكثر من متأخري هذه الأمة في هذا الشرك الذي هو أعظم المحرمات، كما وقع فيه أهل الجاهلية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم, عبدوا القبور والمشاهد والأشجار والأحجار والطواغيت والجن, كما عبد أولئك اللات والعزى ومناة وهبل وغيرها من الأصنام والأوثان, واتخذوا هذا الشرك دينا، ونفروا إذا دعوا إلى التوحيد أشد نفرة، واشتد غضبهم لمعبوداتهم كما قال تعالى ٣٩: ٤٥ (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) وقال تعالى: ٤٦: ١٧ (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا) وقال: ٣٥: ٣٧ , ٣٦ (أنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون) علموا أن لا إله إلا الله تنفي الشرك الذي وقعوا فيه, وأنكروا التوحيد الذي دلت عليه. فصار أولئك المشركون أعلم بمعنى هذه الكلمة "لا إله إلا الله" من أكثر متأخري هذه الأمة، لا سيما أهل العلم منهم الذين لهم دراية في بعض الأحكام وعلم الكلام، فجهلوا توحيد العبادة فوقعوا في الشرك المنافي له وزينوه, وجهلوا توحيد الأسماء والصفات وأنكروه، فوقعوا في نفيه أيضا وصنفوا فيه الكتب؛ لاعتقادهم أن ذلك حق وهو باطل, وقد اشتدت غربة الإسلام حتى عاد المعروف منكرا والمنكر معروفا, فنشأ على هذا الصغير, وهرم عليه الكبير. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ" وقد قال صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة, وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) وهذا الحديث قد صح من طرق كما ذكره العماد ابن كثير وغيره من الحفاظ، وهو في السنن وغيرها. ورواه محمد بن نصر في كتاب الاعتصام, وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بعد القرون الثلاثة. فلهذا عم الجهل بالتوحيد الذي هو أصل دين الإسلام; فإن أصله أن لا يعبد إلا الله وأن لا يعبد إلا بما شرع, وقد ترك هذا وصارت عبادة الأكثرين مشوبة بالشرك والبدع, ولكن الله تعالى وله الحمد لم يخل الأرض من قائم له بحججه, وداع إليه على بصيرة, لكيلا تبطل حجج الله وبيناته التي أنزلها على أنبيائه ورسله، فله الحمد والشكر على ذلك.