للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الثالثة: قوله: " لا يستجرينكم الشيطان "، مع أنهم لم يقولوا إلا الحق.

الرابعة: قوله: " ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي ".

" لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر " ١ ٢. وهذه الآفات قد تكون محبة المدح سببا لها وسلما إليها، والعجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. وأما المادح فقد يفضي به المدح إلى أن ينزل الممدوح منزلة لا يستحقها، كما يوجد كثيرا في أشعارهم من الغلو الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وحذر أمته أن يقع منهم، فقد وقع الكثير منه حتى صرحوا فيه بالشرك في الربوبية والإلهية والملك، كما تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك. والنبي صلى الله عليه وسلم لما أكمل الله له مقام العبودية صار يكره أن يمدح، صيانة لهذا المقام، وأرشد الأمة إلى ترك ذلك نصحا لهم، وحماية لمقام التوحيد عن أن يدخله ما يفسده، أو يضعفه من الشرك ووسائله. " {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} ٣، ورأوا أن فعل ما نهاهم صلى الله عليه وسلم عن فعله قربة من أفضل القربات، وحسنة من أعظم الحسنات!

وأما تسمية العبد بالسيد فاختلف العلماء في ذلك.

قال العلامة ابن القيم في بدائع الفوائد: " اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر. فمنعه قوم، ونقل عن مالك. واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: "يا سيدنا" قال: " السيد الله تبارك وتعالى " ٤. وجوّزه قوم، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: " قوموا إلى سيدكم " ٥ ٦. وهذا أصح من الحديث الأول. قال هؤلاء: السيد أحد ما يضاف إليه، فلا يقال للتميمي: سيد كِندة، ولا يقال: الملك سيد البشر. قال: وعلى هذا فلا يجوز أن يطلق على الله هذا الاسم، وفي هذا نظر؛ فإن السيد إذا أطلق عليه تعالى فهو في منزلة المالك، والمولى والرب، لا بمعنى الذي يطلق على المخلوق". انتهى.

قلت: فقد صح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال في معنى قول الله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} ٧: "أي إلها وسيدا". وقال في قول الله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} ٨: " أنه السيد الذي كمل في جميع أنواع السؤدد ". وقال أبو وائل: " هو السيد الذي انتهى سؤدده ". وأما استدلالهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: " قوموا إلى سيدكم ". فالظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يواجه سعدا به، فيكون في هذا المقام تفصيل والله أعلم.


١ مسلم: الإيمان (٩١) , والترمذي: البر والصلة (١٩٩٨ ,١٩٩٩) , وأبو داود: اللباس (٤٠٩١) , وابن ماجه: المقدمة (٥٩) والزهد (٤١٧٣) , وأحمد (١/٤١٢ ,١/٤١٦) .
٢ في قرة العيون: فأعلى مراتب العبد هاتان الصفتان: العبودية الخاصة والرسالة. وللنبي صلى الله عليه وسلم أكملهما. وقد أخبر الله تعالى أنه وملائكته يصلون عليه، وأثنى عليه بأحسن ثناء وأبلغه, وشرح له صدره ووضع عنه وزره ورفع له ذكره، فلا يذكر في الأذان والتشهد والخطب إلا ذكر معه. صلوات الله وسلامه عليه.
٣ سورة البقرة آية: ٥٩.
٤ تقدم تخريجه برقم (٤٥٠) .
٥ البخاري: الجهاد والسير (٣٠٤٣) , ومسلم: الجهاد والسير (١٧٦٨) , وأبو داود: الأدب (٥٢١٥) , وأحمد (٣/٢٢ ,٣/٧١) .
٦ قال هذا حين رأى سعد بن معاذ آتيا على حمار قد أسندوه؛ لأنه كان مريضا من جرح أصابه من المشركين في الخندق. وقد دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم في بني قريظة بعد أن حاصرهم، وقبلوا أن ينزلوا على حكم سعد, فكان هذا القول منه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مريض ولا يستطيع أن ينزل عن الحمار وحده، فأمرهم أن يقوموا لينزلوه، ولأنه جاء لهذه القضية, فأراد أن يجعل له من التعظيم ما يناسب هذه الواقعة. وكان سعد بن معاذ سيد الأوس ورئيسهم -رضي الله عنهم-.
٧ سورة الأنعام آية: ١٦٤.
٨ سورة الإخلاص آية: ٢.

<<  <   >  >>