للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومعلوم أن الاستقراء هو تتبع الأفراد حتى يغلب على ظنه أن ذلك الحكم مطرد في جميع الأفراد، وإيضاح هذا أن القائلين بالجمع المذكور بين الوحي وأقوال أهل الفلسفة في محل العقل. قالت جماعة منهم: دليلنا على هذا الجمع الاستقراء غير التام، وذلك أنهم قالوا: تتبعنا أفراد الإنسان الطويل العنق طولًا مفردًا زائدًا على المعهود زيادة بينة، فوجدنا كل طويل العنق طولًا مفرطًا ناقص العقل، وذلك لأن طول العنق طولًا مفرطًا يلزمه بعد المسافة بين طريق نور العقل الكائن في القلب وبين المتصاعد منه إلى الدماغ، وبعد المسافة بين طرفيه يؤدي إلى عدم تماسكه واجتماعه فيظهر فيه النقص.

وهذا الدليل كما ترى ليس فيه مقنع وإن كان يشاهد مثله في الخارج كثيرًا، فتحصل من هذا أن الذي يقول إن العقل في الدماغ وحده وليس في القلب منه شيء أن قوله في غاية البطلان، لأنه مكذب لآيات وأحاديث كثيرة كما ذكرنا بعضه.

وهذا القول لا يتجرأ عليه مسلم إلَّا إن كان لا يؤمن بكتاب الله ولا بسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو إن كان كذلك ليس بمسلم.

ومن قال: إنه في القلب وحده، وليس في الدماغ منه شيء، فقوله هو ظاهر كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقم دليل جازم قاطع من نقل ولا عقل على خلافه.

[*وادعاء بعض متأخريهم أنهم راقبوا المفكر وقت تفكيره، وتوصلوا ببعض الأجهزة لمحل الحركة الفكرية فوجدوه في الدماغ، وذلك يدل على أنه في الدماغ، فليس فيه مقنع، ولو كان لا يخالف الوحي، فكيف وهو يخالف كلام الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ولا ملازمة بين الحركة والإدراك، ولا مانع من كون الحركة في الدماغ، والإدراك في القلب، ولو كانت الحركة تستلزم أن يكون محلها محل الإدراك، فإن القلب أكثر حركة من الدماغ، وإن قالوا: القلب يتحرك دائمًا، والحركة الدماغية تختص بوقت الفكر، فهي أخص بالإدراك من القلب، فالجواب بالمنع، بل الأنسب أن يكون الإدراك بما هو أكثر حركة؛ إذ لا مانع من أن حركته وقت التفكير هي التي بها الإدراك؛ ولأن الإنسان لا يخلو غالبًا من تفكير، وحركته وقت النوم الذي ليس فيه تفكير لا يمتنع عقلًا الإدراك بحركته وقت التفكير، والوحي يشهد له؛ لأن محل الإدراك في القلب، وعلى كل حال فالعقل السليم لا يجزم باستلزام الحركة محل الإدراك، والآيات القرآنية التي قدمنا تدل على أن محل العلم والفقه الذي هو الفهم بكثرة هو القلب، ومما يوضح ذلك ترتيبه نفي العلم والفقه بالفاء على الطبع على القلب، والفاء من حروف التعليل، كقولهم: سرق فقطعت يده، أي: لعلة سرقته، وسها فسجد، أي: لعلة سهوه.

ومن الآيات التي قدمنا قوله تعالى في التوبة: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [التوبة، الآية (٨٧) فترتيبه: {فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} بـ "الفاء" على قوله: {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} يدل على أن نفي الفقه الذي هو العلم عنهم، علته الطبع على القلب، ونظيره قوله في سورة المنافقين: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ ... } [المنافقون، الآية (٣)]، فرتب عدم الفقه على الفقه بـ "الفاء" على الطبع، ونظيره قوله في التوبة أيضًا: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [التوبة، الآية (٩٣)]، فرتَّب أيضًا نفيَ العلم بـ "الفاء" على الطبع على قلوبهم، فدلَّ على أن الطبعَ على القلب هو علةُ عدمِ الفهم، أي: فهم لا يفقهون؛ لعلة الطبع على قلوبهم، فهم لا يعلمون؛ لعلة الطبع على قلوبهم، والآيات القرآنية لم تجعل للدماغ أثرًا في العلم ولا في الفهم ألبتة كما ترى*] [١].

ومن جمع بين القولين، فقوله جائز عقلًا، ولا تكذيب فيه للكتاب ولا للسنة، [و] [٢] لكنه يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه، ولا دليل عليه من النقل، فإن قام عليه دليل من عقل، أو استقراء محتج به، فلا مانع من قبوله. والعلم عند الله تعالى. وهذا ما يتعلق بالمسألة الأولى.


[١] قال معد الكتاب للشاملة: ما بين المعقوفين من قوله -رحمه الله-: "وادعاء بعض متأخريهم ... "، إلى قوله: " ... كما ترى" ساقط من المطبوع، وزيادة من (أ).
[٢] قال معد الكتاب للشاملة: ما بين المعقوفين ساقط من المطبوع، وزيادة من (أ).

<<  <  ج: ص:  >  >>