لَمْ تكن للحكومة العثمَانية على امتداد سلطانها ورقعة البلاد التي تديرها أية سيطرة تذكر على البادية، ففي كل هذا الحكم كنت ترى مثلاً عشائر شمر تنتقل في الجزيرة بين الخابور ودجلة والفرات، وكل مَا فعلته السلطات آنذاك أنها نصبت شيخين أحدهمَا " بداوة " يسير مع عشيرته وينتقل معها والاخر " مدينة " مركزه بين بغداد والَمْوصل، وبذلك يكون قريباً من السلطات ليستعينوا به على الإدارة البدوية، والأول ينتخب من الشيوخ الشجعان الكرمَاء الَمْوفقين بالغزو أمَا الاخر فيكون من أصحاب الَوْجاهة ولين العريكة، ولكن الشرط فيهمَا أن يكون كلا الشيخين من آل محمد لأنهم بيت الَمْشيخة، وبيت الَمْشيخة وقف على آل محمد، وهذا مَا فصلناه في الجزء الثاني من هذا الكتاب. ومرد ذلك إلى أن معظم أهل الَمْوصل أهل بغداد يعرفون آل محمد شيوخ شمر الجربة وهم أولاد فرحان باشا. وكثيراً مَا كانت الحكومة العثمَانية تغضب عليهم، أو تهددهم. وقد حدث مرة كمَا نوهت في فصل آخر أن أحد الَوْلاة غضب على أحد الشيوخ وكتب إليه كتاباً مهدداً إياه، اختتمه بقول ابن الَوْردي:
جانبِ السلطانَ واحْذرْ بَطْشَهُ ... لا تخاصمْ مَنْ إذا قَالَ فعلْ
فأجابه الشيخ مستعطفاً إياه، مردداً في ختام رسالته إليه قوله:
جانبِ السلطانَ واحْذرْ بَطْشَهُ ... لا تخاصمْ مَنْ إذا شَدَّ رَحَلْ
والحكم العثمَاني لَمْ يقتصر على اتخاذ طريق الَمْشيخة وسيلة للسيطرة، بل إنه أنشأ قلاعاً للجند لتكون مركز قوة لفرض النفوذ تسير منها قوات كبيرة بين آونة وأُخرى، وهذا مَا حدث يوم سارت حملة كبيرة من تلك الأمَاكن على شمر حين عاث شيخها عبد الكريم الجربة فساداً في منطقة الَمْوصل، فألقت القبض عليه وشنقته على رأس جسر الَمْوصل، وقد عرف اعتداء شمر وشيخها بالَمْوصل آنذاك باسم " خراب عبد الكريم "، وذلك يرجع إلى مَا قبل مئة وثلاثين عامَا تقريباً، ولا بد أن نذكر في هذا الصدد أن الَمْوصل أصابها خراب على يد اثنين أحدهمَا عبد الكريم الجربة قديمَا، وثانيهمَا عبد الكريم قاسم حديثاً، وهمَا باسم واحد مع اختلاف اللقب، ورغم الَوْسائل التي اتبعها الحكم العثمَاني، بقيت عشائر شمر تغزو عشائر عنزة وعلى الأخص بالشامية ممَا سبب الفوضى والتعدي على القرى والطرق التي يمر عليها الغزو، والَمْعابر التي يعبر منها على نهر الفرات ومَا زلت أذكر أيام الطفولة في راوة تلك الغزوات الكثيرة وكيف كانت الرمَاح الطويلة تملأُ واديها، إذ كان البدو يتخذون الَمْعابر والَمْخاضات في راوة وجوارها مسرحاً لهم، ومَا زلت أذكر أسمَاء الرجال الشجعان الذين كان يتردد ذكرهم ممن كانوا يقودون الغزو ومَا كان بينهم من منافسة، ولا سيمَا من عائلة الَمْشيخة أمثال منيف ونايف ونواف أولاد جار الله والهادي بن العاص، الذين كانوا يتنافسون على الَمْشيخة في الجزيرة، حتى بلغ بهم الأمر حد الاقتتال واغتيال بعضهم بعضا، وكان الأباء آنذاك يشجعون أولادهم على تولي الَمْشيخة ويحثونهم عليها، لقد كان العاصي يردد لَوْلده الهادي:
كمَا كان يمتدحه دون إخوته بقوله:" يا ظنية بعد أبو شاته فساد ". واستمر الحال بين العشائر البدوية يغزو بعضها بعضا، ويتقاضون بذلك تفاخرهم بعاداتهم التي جاء الإسلام قبل ١٣٩٠ سنة فحاربها وندد بها واعتبرها عصبية جاهلية إلا أن ذلك لَمْ يلق أي أثر على البدو، فأنه يروى أن فرحان باشا مر يومَا بقرية تدعى " الَمْشاهدة " فرأى رجالها وقد امتلأت أجسامهم وضخمت قامَاتهم، فقال لهم: لَمْاذا لا تغزون؟ فقالَوْا له: لا نعرف، فقال لهم: اغزوا من هو أطقع منكم. وقال: أمَا في الشمَال في منطقة الَمْوصل، فقد ألف بيرق لشيخ شمر دهام الهادي إلا أن هذا البيرق لَمْ يكتب له النجاح، وبعد إنشاء الحكم الأهلي ألفت الحكومة بيرقاً في الشمَال لشيخ شمر الشيخ عقيل الياور وقد انتخب حديثاً، ولَمْ يقبل أن يكون بيرقة بإمرة ضابط بريطاني، فاختارت الحكومة مؤلف هذا الكتاب قائداً لهذا البيرق في ٢٠٢١٩٢٢.