للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقار يصحبه وترى كثيرًا من أهل زمانك يعتمدون الصراخ والصياح في الدعاء خصوصا في الجوامع حتى يعظم اللغط ويشتد وتستدّ المسامع ويهتز الداعي بالناس ولا يعلم أنه جمع بين بدعتين: رفع الصوت في الدعاء وفي المسجد، وربما حصلت للعوام حينئذ رقة لا تحصل مع خفض الصوت ورعاية سمت الوقار وسلوك السنة الثابتة بالآثار، وما هي إلا رقة شبيهة بالرقة العارضة للنساء والأطفال ليست خارجة عن صميم الفؤاد لأنها لو كانت من أصل لكانت عند إتباع السنة في الدعاء وفي خفض الصوت به أوفر وأوفى وأزكى) (١).

قال الطرطوشي: اعلموا أرشدكم الله أن الله أمر بإخفاء الدعاء وأثنى على من أخفاه فقال: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: ٢ - ٣].

وعن أبي موسى الأشعري قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزاة فأشرفوا على واد فجعل الناس يكبرون ويهللون ويرفعون فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا» (٢). إنه معكم، فإن قال قائل: ماذا أراد بالإخفاء؟ هل أراد إخفاءه عن الناس وإن جهر به في الخلوات أو أمر بالهمس بالشفتين أو أراد إخفاءه في نفسه؟.

فالجواب: إن قوله (نداء خفيا) الظاهر أنه أراد الهمس بالشفتين ويقال: (أخفى دعاءه عن قومه خاليا في جوف الليل، وناداه بقلبه سرا في نفسه وقيل مخلصا فيه لم يطلع عليه إلا من ناجاه» (٣).


(١) الكشاف (٢/ ١٠٦).
(٢) البخاري، باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير برقم ٢٨٣٠ (٣/ ١٠٩١)، مسلم، باب استحباب خفض الصوت بالذكر رقم ٢٧٠٤ (٤/ ٢٠٧٦).
(٣) الدعاء المأثور وآدابه للطرطوشي، ص٩١.

<<  <   >  >>