للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يقف على هذا الجواب من يحتاج إلى بعض إسهاب، ولا سيما مع إيراد الزمخشري للسؤال على تلك الصفة، فإنه لا يفهم منه كل ناظر فيه في بادئ الرأي إلا ما فهمه السائل- عفى الله عني وعنه-. وأما ما أورده في آخر البحث عن كلام الزمخشري في قوله: إن اللام لا تزاد إلا مع أن خاصة، فالجواب أن جواز زيادة اللام لا يختص بأن المذكورة لفظا، بل هو أعم من اللفظ، والتقدير وقد صرح هذا غير واحد من أئمة (١) الإعراب، بل صرح أهل حواشي الكشاف في هذا الموضع بخصوصه بذلك، قال السراج في حاشيته: أي لفظا أو تقديرا ولهذا قوبل بقوله: دون الاسم الصريح (٢) الخ.


(١) انظر " الدر المصون " (٩/ ٤١٨) وقد تقدم التعليق عليه آنفا.
(٢) قال الألوسي في "روح المعاني" (٢٣/ ٢٥٠): ولا تزاد إلا مع أن لفظا أو تقديرا دون الاسم الصريح وذلك لأن الأصل في المفعول به أن يكون اسما صريحا فكأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه كما يعوض السين في أسطاع عوضا من ترك الأصل الذي هو أطوع وهذه الزيادة وإن كانت شاذة قياسا إلا أنها لما كثرت استعمالا جاز استعمالها في القرآن والكلام الفصيح.
ومثل هذا يقال في زيادتها مع فعل الإرادة نحو أردت لأن أفعل وجعل الزمخشري وجه زيادها معه أنها لما كان فيها معنى الإرادة زيدت تأكيدا لها وجعل وجها في زيادتها مع فعل الأمر أيضًا لاسيما والطلب والإرادة عندهم من باب واحد وفي المعنى أوجه أن أكون أول من أسلم في زماني ومن قومي أي إسلاما على وفق الأمر، وأن أكون أول الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلاما، وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره لأكون مقتدى بي في قولي وفعلي جميعا ولا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون. مما لا يفعلون، وأن أفعل ما استحق به الأولية والشرف من أعمال السابقين دلالة على السبب وهى الأعمال التي يستحق بها الشرف بالمسبب وهو الأولية والشرف المذكور في النظم الجليل ذكر ذلك الزمخشري.
وفي الكشف المختار من الأوجه الأربعة الوجه الثاني فإنه المكرر الشائع في القرآن الكريم وفيه سائر المعاني الأخر من موافقة القول الفعل ولزوم أولية الشرف من أولية التأسيس مع أنه ليس فيه أنه أمر بأن يكون أشرف وأسبق.
فائدة:
قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} قال: مقاتل: إن كفار قريش قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتما به؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى فأنزل الله قل يا محمد إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين، وأقول إن التكليف نوعان: أحدهما الأمر بالاحتراز والتاني: الأمر بتحصيل ما ينبغي، والمرتبة الأولى مقدمة على المرتبة الثانية بحسب الرتبة الواجبة اللازمة، إذا شيء هذا فنقول إنه تعالى قدم الأمر بإزالة مالا ينبغي فقال: {اتَّقُوا رَبَّكُمُ} لأن التقوى هي الاحتراز عما لا ينبغي ثم ذكر عقيبه الأمر بتحصيل ما ينبغي فقال: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} وهذا يشتمل على قيدين: أحدهما: الأمر بعبادة الله. الثاني: كون تلك العبادة خالصة عن شوائب الشرك الجلي وشوائب الشرك الخفي وإنما خص الله تعالى الرسول إذا الأمر لينبه على أن غيره بذلك أحق فهو كالترغيب للغير قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} لا شبهة في أن المراد إني أول من تمسك بالعبادات التي أرسلت بها وفي هذه الآية فائدتان:
الفائدة الأولى: كأنه يقول إني لست من الملوك الجبابرة الذين يأمرون الناس بأشياء وهم لا يفعلون ذلك، بل كل ما أمرتكم به فأنا أول الناس شروعا فيه وأكترهم مداومة عليه.
الفائدة الثانية: أنه قال: {إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ} والعبادة لها كنان عمل القلب وعمل الجوارح، وعمل القلب أشرف من عمل الجوارح فقدم ذكر الجزء الأشرف وهو قوله: {مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} ثم ذكر عقيبه الأدون وهو عمل الجوارح وهو الإسلام، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسر الإسلام في خبر جبريل بالأعمال الظاهرة، وهو المراد بقوله ي هذه الآية: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} وليس لقائل أن يقول ما الفائدة في تكرير لفظ (أمرت) لأنا نقول ذكر لفظ (أمرت) أولا في عمل القلب وثانيا في عمل الجوارح ولا يكون هذا تكريرا.
انظر: "التفسير الكبير" للرازي (٢٥/ ٣٥٤ - ٣٥٥)، "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (١٥/ ٢٤٢)