للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والأحاديث النبوية ما لو جمع لكان مؤلفا مستقلا.

فإن قلت: من يحق التواصي بالصبر (١)؟ قلت: يحق إذا رأى الإنسان من أخيه جزعا من أمر قد أصابه، أو من حاجة قد نزلت به، أو من قريب قد فارقه أو في فراقه، أو من عدو قد جاهره بالعداوة، أو نحو ذلك، فيذكر له أن هذا الجزع لا يفيد شيئا، ولا يدفع مكروها، ولا لرد فائتا، وليس له فائدة إلا مجرد فوت نواب المصيبة مع ضم مصيب الجزع إلى مصيبة ما وقع الجزع لأجله، ويبين له أن تعذيب الإنسان نفسه بالهم والغم فيما لا يمكن دفعه، ولا يقدر العبد على استدراكه شعبة من الجنون، وما أحسن قول الشاعر:

أرى الصبر محمودا وعنه مذاهب ... كيف إذا ما لم يكن عنه مذهب

هناك يحق الصبر والصبر واجب ... وما كان منه للضرواة أو جب

وقد اتفق العقلاء جميعا مسلمهم وكافرهم على أن الجزع لأجل أمر قد فات وتعذر استدراكه قبيح عند جميع العقلاء، لأنه تعذيب للنفس فيما لا يمكن رجوعه، ولا يرجى إدراكه فهو مفسدة خالصة خالية عن النفع بوجه من الوجوه، فلا فرق بينه وبن من يضرب نفسه بشيء يؤلمه، لا لسبب يقتضى ذلك، ولا لعلة توجبه، بل عبثا ولعبا، بل


(١) قال ابن قيم الجوزية في " مدارج السالكين " (٢/ ١٧٨): والصبر في اللغة الحبس والكف. ومنه قتل فلان صبرا، إذا امسك وحبس.
ومنه قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} الكهف: [٢٨] أي احبس نفسك معهم.
فالصبر: حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش