للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وفي صحيح البخاري (١) في تفسير سورة {والليل إذا يغشى} عن علي- رضي الله عنه - حديث قد أحطتم به علما، أم يكون ذلك الفعل من العبد خلقا (٢) وصنعة،، لا كسبا وصورة، لإضافته إليه في كثير من الآيات، ولجواز تخصيص تلك العموميات بغير القبيح السيئ، مع أن دلالة العموم ظنية،، وإن كانت كلية، ولقيام الحجة على المكلف باستقلاله، وعدم بطلان المحجة في [إلجائه] (٣) وأعماله.

وهاهنا نكتة يحصل للقاصر عندها البهتة، وهي: أن القائلين بالأول يقولون: إن خلافه فيه إثبات شركاء لله، يتصرفون بغير إذن الله، وأن الإنكار والخلاف (٤) إنما هو


(١) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (٤٥، ٤٩، ٤٩٤٦، ٤٩٤٧، ٤٩٤٨، ٤٩٤٩) من حديث علي قال: " كنا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بقيع الغرقد في جنازة فقال: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار، فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل؟ فقال: اعملوا فكل ميسر ثم قرأ {فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ... } إلى قوله {للعسرى} ".
قلت: وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (٢٦٤٧) وأبو داود رقم (٤٦٩٤) والترمذي رقم (٣٣٤٤) وابن ماجه رقم (٧٨) وأحمد (١/ ٨٢، ١١٩، ١٣٢، ١٤٠).
(٢) وهو قول المعتزلة حيث يقول القاضي عبد الجبار: وهو يتكلم عن خلق الأفعال: " ... والغرض به الكلام في أن أفعال العباد غير مخلوقة، وأنهم المحدثون لها".
ويقول في موضع آخر: " اتفق كل أهل العدل عن أن أفعال العباد من تصرفهم وقيامهم وقعودهم حادثة من جهتهم، وأن الله عز وجل أقدرهم على ذلك، ولا فاعل لها ولا محدث سواهم، وأن من قال أن الله سبحانه وتعالى خالقها ومحدثها فقد عظم خطؤه وأحالوا حدوث فعل من فاعلين ".
انظر: شرح الأصول الخمسة ص ٣٢٣.
وقولهم هذا مخالف لأهل السنة.
فقد قال ابن حزم في الفصل (٣/ ٤١): وذهب أهل السنة كلهم .... إلى أن جميع أفعال العباد مخلوقة خلقها الله عز وجل في الفاعلين لها ".
(٣) كلمة غير واضحة في الأصل وما أثبتناه من رسالة " العذب النمير ".
(٤) ذلك أن المعتزلة ترى أن قبح الأشياء وحسنها والعقاب عليها والثواب ثابت عقلا، فهم يرون أن هناك تلازم بين إدراك قبحها، وبين العقاب عليها - شرح الأصول الخمسة ص ٤٨٤.
فيقال لهم: إنه لا تلازم بين هذين الأمرين، فالأفعال في نفسها حسنة وقبيحة.
لكن لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب إلا بالأمر والنهي، وقبل ورود الأمر والنهي لا يكون قبيحا موجبا للعقاب مع قبحه في نفسه، بل هو في غاية القبح والله لا يعاقب عليه إلا بعد إرسال الرسل: فمثلا: الكذب والزنا: كلها قبيحة في ذاتها والعقاب عليها مشروط بالحكم الشرعي
وقد دل القرآن على أنه لا تلازم بين الأمرين، وأنه تعالى لا يعاقب إلا بإرسال الرسل، وأن الفعل نفسه حسن أو قبيح، قال تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} " [الإسراء:١٥].
ففي هذه الآية إشارة إلى أن العذاب لا يكون إلا بعد بعثة الرسل، وذلك دليل على أن العقاب لا يثبت إلا بالحكم الشرعي، وقال تعالى: {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير} [الملك:٨ - ٩].
وهي دليل على أن العقاب لا يثبت إلا بالشرع بدليل أن الخزنة لم يسألوهم عن مخالفتهم للعقل، بل للنذر، وبذلك دخلوا النار، وهذا مما يبطل قول المعتزلة أن العقاب على القبائح ثابت بالعقل قبل ورود الشرع.
وانظر: مدارج السالكين (١/ ٢٣١ - ٢٣٥).
وقال ابن القيم قي مدارج السالكين (١/ ٢٣١ - ٢٣٢): والحق الذي لا يجد التناقض إليه سبيلا ... أن الأفعال في نفسها حسنة وقبيحة، كما أنها نافعة وضارة. ولكن لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب إلا بالأمر والنهي وقبل ورود الأمر والنهي لا يكون قبيحا موجبا للعقاب مع قبحه قي نفسه، بل هو في غاية القبح، والله لا يعاقب عليه إلا بعد إرسال الرسل، فالسجود للشيطان والكذب
والظلم والفواحش كلها قبيحة في ذاتها، والعقاب عليها مشروط بالشرع .. إلى أن قال وكثير من الفقهاء من الطوائف الأربع يقولون: قبحها ثابت بالعقل والعقاب متوقف على ورود الشرع ..