الأول: أنه كان الحكم كذلك ثم نسخ في عصره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد أخرج أبو داود- في السنن رقم (٢١٩٥) بإسناد حسن- من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: " كان الرجل إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك " اهـ إلا أنه لم يشتهر النسخ فبقي الحكم المنسوخ معمولا به إلى أن أنكره عمر (قلت) إن ثبتت رواية النسخ فذاك وإلا فإنه يضعف هذا قول عمر إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة إلخ فإنه واضح في أنه رأي محض لا سنة فيه وما في بعض ألفاظه عند مسلم- رقم (١٧/ ١٤٧٢) - أنه قال ابن عباس لأبي الصهباء " لما تتابع الناس في الطلاق في عهد عمر فأجازه عليهم ". الثاني: أن حديث ابن عباس هذا مضطرب قال القرطبي: في شرح مسلم وقع فيه مع الاختلاف على ابن عباس الاضطراب في لفظه فظاهر سياقه أن هذا الحكم منقول عن جميع أهل ذلك العصر والعادة تقتضي أن يظهر ذلك وينتشر ولا ينفرد به ابن عباس فهذا يقتضي التوقف عن العمل بظاهره إذا لم يقتض القطع ببطلانه أهـ. (قلت) وهذا مجرد استبعاد فإنه كم من سنة وحادثة انفرد بها راو ولا يضر سيما مثل ابن عباس بحر الأمة ويؤيد ما قاله ابن عباس من أنها كانت الثلاث واحدة ما يأتي من حديت أبي ركانة- أخرجه أبو داود رقم (٢١٩٦) وهو حديث حسن ولفظه: عن ابن عباس قال طلَّق أبو ركانة أم ركانة فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " راجع امرأتك " فقال: إني طلقتها ثلاثا، قال: " قد علمت، راجعها "-. الثالث: أن هذا الحديث ورد في صورة خاصة هي قول المطلق أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق وذلك أنه كان في عصر النبوة وما بعده وكان حال الناس محمولا على السلامة والصدق فيقبل قول من ادعى أن اللفظ الثاني تأكيد الأول لا تأسيس طلاق آخر ويصدق في دعواه فلما رأى عمر تغير أحوال الناس وغلبة الدعاوي الباطلة رأى من المصلحة أن يجري المتكلم على ظاهر كلامه ولا يصدق في دعوى ضميره وهذا الجواب ارتضاه القرطبي. قال النووي: هو أصح الأجوبة. (قلت) ولا يخفى أنه تقرير لكون نهي عمر رأيا محضا ومع ذلك فالناس مختلفون في كل عصر فيهم الصادق والكاذب وما يعرف ما في ضمير الإنسان إلا من كلامه فيقبل قوله وإن كان مبطلا في نفس الأمر فيحكم بالظاهر والله يتولى السرائر مع أن ظاهر قول ابن عباس طلاق الثلاث واحدة انه كان ذلك بأي عبارة وقعت. الرابع: أن معنى قوله كان الطلاق الثلاث واحدة أن الطلاق الذي كان يوقع في عهده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعهد أبي بكر إنما كان يوقع في الغالب واحدة لا يوقع ثلاثا فمراده أن هذا الطلاق الذي يوقعون ثلاثا كان يوقع في ذلك العهد واحدة ويكون قوله فلو أمضيناه عليهم بمعنى لو أجريناه على حكم ما شرع من وقوع الثلاث وهذا الجواب يتنزل على قوله استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة تنزلا قريبا من غير تكلف ويكون معناه الإخبار عن اختلاف عادات الناس في إيقاع الطلاق لا في وقوعه فالحكم متقرر وقد رجح هذا التأويل ابن العربي ونسبه إلى أبي زرعة وكذا البيهقي في السنن الكبرى (٧/ ٣٣٨) أخرجه عنه قال معناه أن ما تطلقون أنتم ثلاثا كانوا يطلقون واحدة. (قلت): وهذا يتم إن اتفق على أنه لم يقع في عصر النبوة إرسال ثلاث تطليقات دفعة واحدة وحديث أبى ركانة وغيره يدفعه وينبو عنه قول عمر فلو أمضيناه فإنه ظاهر في أنه لم يكن معنى ذلك العصر حتى رأى إمضاءه وهو دليل وقوعه في عصر النبوة لكنه لم يمض فليس فيه أنه كان وقوع الثلاث دفعة نادرا في ذلك العصر. الخامس: أن قول ابن عباس كان طلاق الثلاث ليس له حكم الرفع فهو موقوف عليه وهذا الجواب ضعيف لما تقرر في أصول الحديث وأصول الفقه أن كنا نفعل- وكانوا يفعلون له حكم الرفع. السادس: أنه أريد بقوله طلاق الثلاث واحدة هو لفظ البته إذا قال أنتِ طالق البتة- وكما سيأتي في حديث ركانة- وهو حديث ضعيف- فكان إذا قال القائل ذلك قبل تفسيره بالواحدة وبالثلاث فلما كان في عصر عمر لم يقبل منه التفسير بالواحدة قيل وأشار إلى هذا البخاري فإنه أدخل في هذا الباب الآثار التي فيها البتة والأحاديث التي فيها التصريح بالثلاث كأنه يشير إلى عدم الفرق بينهما وأن البتة إذا أطلقت حملت على الثلاث إلا إذا أراد المطلق واحدة فيقبل، فروى بعض الرواة البتة بلفظ الثلاث يريد أن أصل حديث ابن عباس- رضي الله عنه- كان طلاق البتة على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعهد أبي بكر إلى آخره. (قلت) ولا يخفى بُعْدُ هذا التأويل وتوهيم الراوي في التبديل ويبعده أن الطلاق بلفظ البتة قي غاية الندور فلا يحمل عليه ما وقع كيف وقول عمر قد استعجلوه في أمر كان لهم فيه أناة يدل أن ذلك واقع أيضا في عصر النبوة والأقرب أن هذا رأي من عمر رجع له كما منع من متعة الحج وغيرها وكل واحد يؤخذ من قوله ويترك غير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكونه خالف ما كان على عهده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو نظير متعة الحج بلا ريب والتكلفات في الأجوبة ليوافق ما ثبت في عهد النبوة لا يليق فقد ثبت عن عمر اجتهادات يعسر تطبيقها على ذلك نعم إذا أمكن التطبيق على وجه صحيح فهو المراد.