للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يصدق عليه أنه حديث نفس، كائنًا ما كان سواء استقر في النفس وطال الحديث لهابه أو قصر، وسواء بقي زمنًا كثيرًا أو قليلًا، وسواء مر على النفس مرورًا سريعًا أو تراخى فيها، فالكل [١ ب] مما غفره الله لهذه الأمة وشرفها به وخصها برفع الحرج فيه، دون سائر الأمم، فإنها كانت مخاطبة بذلك مأخوذة به، ولا يقال: كيف خوطبت الأمم المتقدمة بمجرد الخواطر التي تمر بأنفسهم من حديث النفس مع كون ذلك من تكليف ما لا يطاق، ولا تقدر على دفعه الطبائع البشرية؟ لأنا نقول: {ويفعل الله ما يشاء} (١)، و {يحكم ما يريد} (٢)، {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} (٣).

فظهر لك بهذا أن كل ما يصدق عليه حديث النفس، فهو مغفور، عفو، متجاوز عنه، كائنًا ما كان على أي صفة كان، فلا يقع به ردة، ولا يكتب به ذنب، ولا تبطل به عبادة، ولا يصح به طلاق، ولا عتاق (٤) ولا شيء من العقوبة، كائنا من كان، فإن


(١) [إبراهيم: ٢٧].
(٢) [المائدة: ١].
(٣) [الأنبياء: ٢٣].
(٤) قال ابن القيم في "زاد المعاد" (٥/ ١٨٤ - ١٨٥): أنا ما لم ينطق به اللسان من طلاق أو عتاق، أو يمين، أو نذر ونحو ذلك، عفو غير لازم بالنية والقصد، وهذا قول الجمهور.
وفي المسألة قولان:
أحدهما: التوقف فيها، قال عبد الرزاق عن معمر. سئل ابن سيرين عمن طلق في نفسه، فقال: أليس قد علم الله ما في نفسك؟ قال: بلى، قال: فلا أقول فيها شيئًا.
الثاني: وقوعه إذا جزم عليه، وهذا رواية أشهب عن مالك، وروي عن الزهري. وحجة هذا القول قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما الأعمال بالنيات"، وأن من كفر في نفسه، فهو كفر، وقوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به} [البقرة: ٢٨٤]، وأن المصر على المعصية فاسق مؤاخذ وإن لم يفعلها، وبأن أعمال القلوب في الثواب والعقاب كأعمال الجوارح، ولهذا يثاب على الحب والبغض، والموالاة والمعاداة في الله، وعلى التوكل والرضى، والعزم على الطاعة، ويعاقب على الكبر والحسد، والعجب والشك والرياء وظن السوء بالأبرياء.
قال ابن القيم: ولا حجة في شيء من هذا على وقوع الطلاق والعتاق بمجرد النية من غير تلفظ، أما حديث: "الأعمال بالنيات" فهو حجة عليهم، لأنه أخبر فيه أن العمل مع النية هو المعتبر، لا النية وحدها، وأما من اعتقد الكفر بقلبه أو شك، فهو كافر بزوال الإيمان الذي هو عقد القلب مع الإقرار، فإذا زال العقد الجازم، كان نفس زواله كفرًا، فإن الإيمان أمر وجودي ثابت قائم بالقلب، فما لم يقم بالقلب حصل ضده وهو الكفر، وهذا كالعلم والجهل إذا فقد العلم، حصل الجهل، وكذلك كل نقيضين زال أحدهما خلفه الآخر.
وأما الآية فليس فيها أن المحاسبة بما يخفيه العبد إلزامه بأحكامه بالشرع، وإنما فيها محاسبته بما يبديه أو يخفيه، ثم هو مغفور له أو معذب، فأين هذا من وقوع الطلاق بالنية، وأما أن المصر على المعصية فاسق مؤاخذ، فهذا إنما هو فيمن عمل المعصية، ثم أصر عليها، فهنا عمل اتصل به العزم على معاودته، فهذا هو المصر، وأما من عزم على المعصية ولم يعملها، فهو بين أمرين إما أن لا تكتب عليه، وإما أن تكتب له حسنة إذا تركها لله عز وجل، وإما الثواب والعقاب على أعمال القلوب فحق، والقرآن والسنة مملوآن به.
ولكن وقوع الطلاق والعتاق بالنية من غير تلفظ أمر خارج عن الثواب والعقاب، ولا تلازم بين الأمرين، فإن من يعاقب عليه من أعمال القلوب هو معاصي قلبية يستحق العقوبة عليها، كما يستحقه على المعاصي البدنية، إذ هي منافية لعبودية القلب، فإن الكبر والعجب والرياء وظن السوء محرمات على القلب.
وهي أمور اختيارية يمكن اجتنابها فيستحق العقوبة على فعلها، وهي أسماء لمعان مسمياتها قائمة بالقلب.