للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من هذه الأحاديث وغيرها متضمنا لذم الدنيا والتنفير منها ففيه دليل على أنها لا تكون محلا للمحبة، وأن حبها وهي بهذه المثابة وسيلة للخطيئة، وما كان منها متضمنا لمدحها أو إباحة الانتفاع بها فهو مقيد يفيد مسوغ للتناول، وليس فيه ما يفيد أنها محل للمحبة.

وبالجملة فالأدلة الواردة في ذم البخل كتابا (١) وسنة (٢) تدل على صحة معنى هذا


(١) منها: قول الله عز وجل: (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء) [محمد: ٣٨].
ومنها قول الله عز وجل: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) [آل عمران: ١٨٠].
ومنها قول الله عز وجل: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد) [الحديد: ٢٤].
(٢) منها ما أخرجه أبو داود رقم (١٦٩٨)، وأحمد (٢/ ١٦٠، ١٩٥)، والحاكم (١/ ٤١٥)، وصححه ووافقه الذهبي، عن عبد الله بن عمرو قال: خطب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا "، وهو حديث صحيح.
ومنها ما أخرجه البخاري رقم (٦٦٣٨)، ومسلم رقم (٣٠/ ٩٩٠) من حديث أبي ذر قال: انتهيت إليه وهو يقول في ظل الكعبة: " هم الأخسرون ورب الكعبة، هم الأخسرون ورب الكعبة، قلت: ما شأني؟ أيرى في شيء؟ ما شأني؟ فجلست إليه وهو يقول فما استطعت أن أسكت، وتغشاني ما شاء الله، فقلت: من هم بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال: الأكثرون أموالا، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا ".
ومنها ما أخرجه البخاري رقم (١٤٠٧)، ومسلم رقم (٩٩٢): حدثنا أبو العلاء بن الشخير أن الأحنف بن قيس حدثهم قال: جلست إلى ملأ من قريش، فجاء رجل خشن الشعر والثياب والهيئة، حتى قام عليهم فسلم ثم قال: " بشر الكانزين برصف يحمى عليه في نار جهنم، ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نفض كتفه، ويوضع على نفض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه، يتزلزل، ثم ولى فجلس إلى سارية، وتبعته وجلست إليه وأنا لا أدري من هو؟ فقلت له: لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذي قلت، قال: إنهم لا يعقلون شيئا، قال لي خليلي، قال: قلت: من خليلك؟ قال: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أبا ذر أتبصر أحدا؟ " قال: فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار وأنا أرى أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرسلني في حاجة له، قلت: نعم، قال: " ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير "، وإن هؤلاء لا يعقلون، إنما يجمعون الدنيا، لا والله، لا أسألهم دنيا ولا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله.
ومنها ما أخرجه مسلم رقم (٣/ ٢٩٥٨)، والترمذي رقم (٣٣٥٤)، والنسائي (٦/ ٢٣٨)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقرأ: " ألهاكم التكاثر " قال: " يقول ابن آدم: مالي مالي، (قال:) وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟ "
ومنها ما أخرجه مسلم رقم (٥/ ٢٩٥٩) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يقول العبد: مالي مالي، إنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وما هو سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس ".
قوله: (ألهاكم التكاثر) [التكاثر: ١] يعني: شغلكم الإكثار من الدنيا ومن الالتفات إليها عما هو الأولى بكم من الاستعداد للآخرة، وهذا الخطاب للجمهور؛ إذ جنس الإنسان على ذلك مفطور، كما قال تعالى: (كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة) [القيامة: ٢٠ - ٢١]، وكما قال تعالى: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين. . . .) [آل عمران: ١٤].
وقوله: " يقول ابن آدم: مالي مالي ": أي يغتر بنسبة المال إليه وكونه في يديه، حتى ربما يعجب به ويفخر به، ولعله ممن تعب هو في جمعه، ويصل غيره إلى نفعه، ثم أخبر بالأوجه التي ينتفع بالمال فيها، وافتتح الكلام بـ (إنما) التي هي للتحقيق والحصر فقال: " إنما له من ماله ثلاث ".
وقوله: " أو أعطى فاقتنى " أي أعطى الصدقة فاقتنى الثواب لنفسه كما قال في الرواية الأخرى: " أو تصدقت فأمضيت "، وقد رواه ابن ماهان: " فأقنى " بمعنى: أكسب غيره كما قال تعالى (أغنى وأقنى) [النجم: ٤٨] " المفهم " (٧/ ١١٠ - ١١٢).