للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الحديث المسئول عنه؛ لأن البخل بمتاع الحياة الدنيا لا تكون إلا من محب لها، متهالك عليها، وهكذا الأدلة الدالة على ذم التكاثر والجمع والكنز والمنع لما يجب [٢ ب] في المال، فإنها تفيد صحة معنى الحديث المسئول عنه؛ لأن كل ذلك لا يصدر إلا من محب للدنيا، وهكذا الأدلة الواردة في الترغيب في الزهد (١)، والترهيب من مقابله هي تفيد هذا


(١) منها ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (١٢٥/ ١٠٥٤) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه ".
(منها) ما أخرجه البخاري رقم (٦٤٦٠)، ومسلم رقم (١٢٦/ ١٠٥٥) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم ارزق آل محمد قوتا ".
قوتا: ما يقوت الأبدان ويكف عن الحاجة والفاقة، وهذا الحديث حجة لمن قال: إن الكفاف - كما جاء في رواية أخرى - أفضل من الغنى والفقر، ووجه التمسك بهذا الحديث أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما يدعو لنفسه بأفضل الأحوال، وأيضا فإن الكفاف حالة متوسطة بين الغنى والفقر، فإن حالة صاحب الكفاف حالة الفقير؛ إذ لا يترفه في طيبات الدنيا، ولا في زهرتها، فكانت حاله إلى الفقر أقرب، فقد حصل له ما حصل للفقير من الثواب على الصبر، وكفي مرارته وآفاته.
انظر: " المفهم " (٧/ ١٣٠ - ١٣٢).
ومنها ما أخرجه مسلم رقم (٥٥/ ٢٨٥٨) عن المستورد أخي بني فهر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه - وأشار يحيى بالسبابة - في اليم، فلينظر بم يرجع؟ ".
قال القرطبي في " المفهم " (٧/ ١٢٥ - ١٢٦): وهذا مثل لحقارة الدنيا وقلتها، وهو نحو قوله تعالى: (قل متاع الدنيا قليل) [النساء: ٧٧]، أي: كل شيء يتمتع به في الدنيا من أولها إلى آخرها قليل؛ إذ لا بقاء ولا صفو فيه، وهذا بالنسبة إلى نفسها، وأما بالنسبة إلى الآخرة فلا خطر ولا قدر للدنيا، وهذا هو المقصود بتمثيل هذا الحديث حيث قال: " فلينظر بماذا يرجع؟ "، ووجه هذا التمثيل أن القدر الذي يتعلق بالإصبع من ماء البحر لا قدر له ولا خطر، وكذلك الدنيا بالنسبة إلى الآخرة.
ومنها ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (٢/ ٢٩٥٧) عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بالسوق داخلا من بعض العالية، والناس كنفته، فمر بجدي، أسك ميت، فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال: " أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ " فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: " أتحبون أنه لكم؟ " قالوا: والله لو كان حيا كان عيبا فيه؛ لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم ".
جدي أسك: أصل السك: ضيق الصماخ، وقال الهروي في غريب الحديث (٤/ ١٦٠): الاستكاك: الصم، استكت أسماعهم: صموا، وقال ثابت: السك: صغر الأذن مع لصوقها وقلة إشرافها.
قال القرطبي في " المفهم " (٧/ ١٠٨): وقوله: " والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم " الدنيا: وزنها (فعلى) وألفها للتأنيث، وهي الدنو بمعنى القرب، وهي صفة لموصوف محذوف، كما قال تعالى: (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) [آل عمران: ١٨٥]، غير أنه قد كثر استعمالها استعمال الأسماء، فاستغني عن موصوفها كما جاء في هذا الحديث.
والمراد: الدار الدنيا أو الحياة الدنيا التي تقابلها الدار الأخرى أو الحياة الأخرى، ومعنى هوان الدنيا على الله: أن الله تعالى لم يجعلها مقصودة لنفسها، بل جعلها طريقا موصلة إلى ما هو المقصود لنفسه، وأنه لم يجعلها دار إقامة ولا جزاء، وإنما جعلها دار رحلة وبلاء، وأنه ملكها في الغالب الكفرة والجهال، وحماها الأنبياء والأولياء. . .
وقد أوضح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا المعنى فقال: " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء " - أخرجه ابن ماجه رقم ٤١١٠ - ، وحسبك بها هوانا أن الله قد صغرها وحقرها وذمها وأبغضها وأبغض أهلها ومحبيها، ولم يرض لعاقل فيها إلا بالتزود منها والتأهب للارتحال عنها.
ومنها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (١٤٦٥)، ومسلم في صحيحه رقم (١٢٣/ ١٠٥٢) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جلس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر وجلسنا حوله، فقال: " إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها ".
من دلائل الزهد ومعناه:
١ - أن يكون العبد بما في يد الله أوثق منه بما في يد نفسه، وهذا ينشأ من صحة اليقين وقوته، وقال الفضيل بن عياض: " أصل الزهد الرضا عن الله عز وجل "، أخرجه البيهقي في " الزهد " رقم (٧٨).
٢ - أن يكون العبد إذا أصيب في دنياه من ذهاب مال أو ولد أو غير ذلك أرغب في ثواب ذلك مما ذهب منه من الدنيا أن يبقى له.
وقد روي عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول في دعائه: " اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ".
أخرجه الترمذي رقم (٣٥٠٢)، وابن السني في " عمل اليوم والليلة " رقم (٤٤٦)، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " رقم (٤٠١)، والحاكم في " المستدرك " (١/ ٥٢٨)، وقال: حديث صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، وهو حديث حسن.
٣ - أن يستوي عند العبد حامده وذامه في الحق، وهذه من علامات الزهد في الدنيا واحتقارها، وقلة الرغبة فيها، قال إبراهيم بن أدهم: " الزهد ثلاثة أصناف: زهد فرض، وزهد فضل، وزهد سلامة، فأما الزهد الفرض فالزهد في الحرام، والزهد الفضل الزهد في الحلال، والزهد السلامة الزهد في الشبهات ".