للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عليه في شعاب الأماني وهضاب التسويف؛ فصار مقهورًا بتفريطه، مستعبدا بترخيصه، ولو زجرها بزواجر التقوى، وربطها برباط القنوع، وضربها بعصا الزهد، لكان قاهرا لها لا مقهورا بها، وحاكما عليها لا محكوما عليه منها.

وفي هذا العالم الإنساني من صلحاء العباد من هو لما ذكرناه شاهد صدق، وهذا يجده كل عاقل من نفسه، فإنه إذا استرسل في شهوة من الشهوات، أو خلى بين نفسه وبين لذة من اللذات، وجد من نفسه ميلا إليها ورغوبا فيها لم يكن قد وجده قبل ذلك.

على أنه لو قال قائل: إن حب ما لا تتم الحياة إلا به في هذه الدنيا [٦ أ] ليس هو أمرا [١١] جبليا، بل هو أمر دعت إليه الضرورة، فإن الحياة ما دامت لا بد لصاحبها من تناول ما يسد به رمقه، ويدفع به جوعته، ويزيل به ضرورته، وهذا أمر دعت إليه الضرورة؛ لأنه محبوب حبا جبليا، فإنه لو كان كذلك لم يعف الإنسان شيئا من ذلك، مع أنه إذا تناول ما يكفيه من طعام أو شراب أو نكاح لم يكن ذلك محبوبا إليه في تلك الحال، فتناول ما دعت إليه الضرورة من الدنيا مما هو سائغ، وليس بقبيح عقلا، ولا شرعا، لو فرضنا أنه من حب الدنيا لا من ضرورة الحاجة إليه لكان مأذونا فيه بالأدلة الثابتة في الكتاب (١) والسنة (٢) القاضية بأن ذلك مأذون فيه، فيكون الحب الذي هو رأس كل خطيئة ما زاد على ذلك.

فحاصل هذا الجواب هو أنا نمنع أن يكون الإنسان مجبولا على محبة شيء من الدنيا،


(١) منها قوله تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) [القصص: ٧٧].
(٢) منها ما أخرجه النسائي (٧/ ٦١ رقم ٣٩٣٩)، وأحمد (٣/ ١٢٨، ١٩٩، ٢٨٥)، والحاكم في " المستدرك " (٢/ ١٦٠)، والبيهقي في " السنن الكبرى " (٧/ ٧٨) من طرق: عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حبب إلي من الدنيا النساء والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة "، وهو حديث صحيح.