للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حديث جندب. وللحديث ألفاظ أخرى. ولا يخفى على من له علم بمدلولات الألفاظ أن اللعن والدعاء عليهم بالمقاتلة من الله، واشتداد غضبه عليهم من أعظم الأدلة على التحريم.

وقد تقرر في الأصول (١) أن النهي بمجرده حقيقة في التحريم؛ فلفظ: أنهاكم كاف في استفادة التحريم مع عدم وجود الموجب للصرف إلى الكراهة. ولم يوجد هاهنا، إنما وجد ما لو انفرد عن النهي لكان قاضيًا بالتحريم، وهو اللعن والدعاء بالغضب ونحوهما.

وقوله: اتخذوا جملة مستأنفة على سبيل البيان الموجب اللعن، كأنه قيل: ما سبب لعنهم؟ فأجيب بقوله: اتخذوا. وقد استشكل ذكر النصارى فيه؛ لأن اليهود لهم أنبياء بخلاف النصارى، فليس بين عيسى - عليه السلام - وبين نبينا - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - نبي غيره، وليس له قبر. وأجيب أيضًا بأن الجمع في قوله أنبيائهم باعتبار المجموع من اليهود والنصارى، لا باعتبار طائفة اليهود وحدها وطائفة النصارى وحدها، وقيل الأنبياء وكبار (٢) أتباعهم، فاكتفى بذكر الأنبياء تغليبًا.


(١) فإن تجردت صيغة النهي عن المعاني المذكورة والقرائن فهي للتحريم.
انظر: "الرسالة" (ص ٢١٧، ٣٤٣)، "اللمع" (ص ١٤)، "التبصرة" (ص ٩٩)، "المسودة" (ص ٨١).
(٢) عن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة".
أخرجه البخاري رقم (٤٢٧) ومسلم رقم (١٦/ ٥٢٨) وأحمد (٦/ ٥١).
قال القرطبي في "المفهم" (٢/ ١٢٧ - ١٢٨): قوله أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا تلك الصور، قال الشيخ: إنما فعل ذلك أوائلهم ليستأنسوا برؤية تلك الصورة، ويتذكروا بها أحوالهم الصالحة، فيجتهدون كاجتهادهم، ويعبدون الله تعالى عند قبورهم. فمضت لهم بذلك أزمان ثم إنهم خلف من بعدهم خلف جهلوا أغراضهم، ووسوس لهم الشيطان: أن آباءهم وأجدادهم كانوا يعبدون هذه الصور، ويعظمونها فعبدوها فحذر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مثل ذلك، وشدد النكير والوعيد على فعل ذلك، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك".