للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ويؤيد هذا حديث جندب (١) السابق بلفظ: كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. والمراد بالاتخاذ أعم من أن يكون ابتداعًا واتباعًا؛ فاليهود ابتدعت، النصارى اتبعت. ولا ريب أن النصارى تعظم قبور كثير من الأنبياء الذين تعظمهم اليهود، والمساجد جمع مسجد، قال في القاموس (٢) والمسجد معروف، ويفتح جيمه، والمفعل من باب نصر بفتح العين اسمًا كان أو مصدرًا إلا أحرفا كمسجد، ومطلع، ومشرق، ومسقط، ومفرق، ومجزر، ومسكن، ومرفق، ومنبت، ومنسك، ألزموها كسر العين، والفتح جائز وإن لم نسمعه. وما كان من باب جلس فالموضع بالكسر والمصدر بالفتح نزل منزلا أي نزولاً، وهذا [٢] منزله بالكسر؛ لأنه بمعنى الدار. انتهى.

وكلام أهل الصرف مثل هذا الكلام، كما وقع في شافية ابن الحاجب (٣) أن ما كان مضارعه مفتوح العين أو مضمومها فهو على مفعل، بفتح العين ومن مكسورها. والمثال على مفعل بكسرها إلا مواضع جاءت على خلاف القياس. إذا تقرر هذا فمعنى اتخاذهم (٤) لقبور أنبيائهم مساجد أن يعمروا عليها أو حولها مكانًا يصلى فيه، وإن لم


(١) تقدم تخريجه.
(٢) (ص: ٣٦٦).
(٣) شرح شافية ابن الحاجب (١/ ١١٧ - ١٢٠).
(٤) الذي يفهم من هذا الاتخاذ إنما هو ثلاث معان:
الأول: الصلاة على القبور بمعنى السجود عليها.
الثاني: السجود إليها واستقبالها بالصلاة والدعاء.
الثالث: بناء المساجد عليها وقصد الصلاة فيها.
* قال ابن حجر الهيتمي في "الزواجر" (١/ ١٢١): "واتخاذ القبر مسجدا معناه الصلاة عليه أو إليه".
* قال الصنعاني في "سبل السلام" (١/ ٢١٤): "واتخاذ القبر مساجد أعم من أن يكون بمعنى الصلاة إليها أو بمعنى الصلاة عليها".
وجملة القول أن الاتخاذ المذكور في الأحاديث المتقدمة يشمل كل هذه المعاني الثلاثة فهو من جوامع كلمه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال الشافعي في "الأم" (١/ ٢٤٦): وأكره أن يبنى على القبر مسجد وأن يسوى، أو يصلى عليه، وهو غير مسوى (يعني أنه ظاهر معروف) أو يصلى إليه، قال: وإن صلى إليه أجزأه وقد أساء، أخبرنا مالك أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" قال: وأكره هذا للسنة والآثار، وأنه كره - والله تعالى أعلم - أن يعظم أحد من المسلمين، يعني يتخذ قبره مسجدًا ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على ما يأتي بعده".
* قال المحدث الألباني تعليقًا على قول الشافعي "وأكره": هي كراهة التحريم.
وقال الشيخ علي القارئ في "مشكاة المصابيح" (١/ ٤٥٦) نقلا عن بعض أئمة الحنفية: "سبب لعنهم: إما لأنهم كانوا يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيمًا لهم، وذلك هو الشرك الجلي، وإما لأنهم كانوا يتخذون الصلاة لله تعالى في مدافن الأنبياء، والسجود على مقابرهم والتوجه إلى قبورهم حالة الصلاة، نظرًا منهم بذلك إلى عبادة الله والمبالغة في تعظيم الأنبياء، وذلك هو الشرك الخفي لتضمنه ما يرجع إلى تعظيم مخلوق فيما لم يؤذن له فنهى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمته عن ذلك إما لمشابهة ذلك الفعل سنة اليهود، أو لتضمنه الشرك الخفي".
حكم هذا الاتخاذ:
اتفقت المذاهب الأربعة على تحريم ذلك، ومنهم من صرح بأنه كبيرة. قال ابن حجر الهيتمي في "الزواجر " (١/ ١٢٠): "الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتسعون: اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها واتخاذها أوثانًا، والطواف بها، واستلامها والصلاة إليها".