للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسجد أولاً، وجعل القبر في جانبه ليدفن فيه، واقف المسجد أو غيره، فليس بداخل في ذلك.

قال العراقي (١) والظاهر أنه لا فرق، فإنه إذا بني المسجد لقصد أن يدفن في بعضه أحد فهو داخل في اللعنة، بل يحرم الدفن في المسجد، وإن شرط أن يدفن فيه لم يصح الشرط لمخالفته لمقتضى وقفه مسجدًا انتهى.

إذا تقرر ما حكيناه عن العلماء من أن العلة في زجره - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - عن اتخاذ قبره مسجدًا هي خشية الافتتان (٢) لاح من ذلك المنع من عمارة المساجد في مكان فيه قبر، والمنع من القبر في جانب من جوانب المسجد من غير فرق بين القبلة وغيرها، لأن ذلك كله مما يدعو إلى المبالغة في التعظيم التي هي ذريعة (٣) الافتتان.


(١) انظر: "طرح التثريب في شرح التقريب" (٤/ ٢٩٨).
(٢) تقدم توضيح ذلك.
(٣) قال ابن تيمية في "التوسل والوسيلة" (ص ٢٥): ولهذا كانت زيارة قبور المسلمين على وجهين: زيارة شرعية، وزيارة بدعية.
فالزيارة الشرعية: أن يكون مقصود الزائر الدعاء للميت كما يقصد بالصلاة على جنازته الدعاء له. فالقيام على قبره من جنس الصلاة عليه، قال تعالى: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} [التوبة: ٨٤]. فنهى عن الصلاة عليهم والقيام على قبورهم لأنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم كافرون فلما نهى عن هذا وهذا لأجل هذه العلة وهي الكفر دل ذلك على انتفاء هذا النهي عن انتفاء هذه العلة ... ".
ولهذا كانت الصلاة على الموتى من المؤمنين والقيام على قبورهم من السنة المتواترة فكان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي على موتى المسلمين، وشرع ذلك لأمته وكان إذا دفن الرجل من أمته يقوم على قبره ويقول: "سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل" - أخرجه أبو داود رقم (٣٢٢١) من حديث عثمان - وغيره. وكان يزور قبور أهل البقيع والشهداء بأحد ويعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم". - أخرجه مسلم رقم (٩٧٥) من حديث بريدة رضي الله عنه.
وأما الزيارة البدعية: فهي التي يقصد بها أن يطلب من الميت الحوائج أو يطلب منه الدعاء والشفاعة، أو يقصد الدعاء عند قبره لظن القاصد أن ذلك أجوب للدعاء.
فالزيارة على هذه الوجوه كلها مبتدعة لم يشرعها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا فعلها الصحابة لا عند قبر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا عند غيره. وهي من جنس الشرك وأسباب الشرك ولو قصد الصلاة عند قبور الأنبياء والصالحين من غير أن يقصد دعاءهم والدعاء عندهم مثل أن يتخذ قبورهم مساجد لكان ذلك محرمًا منهيًا عنه، ولكان صاحبه متعرضًا لغضب الله ولعنته ... ". وانظر: "إغاثة اللهفان" (١/ ٢٨٣ - ٢٨٤).